احتفى المعهد الفرنسي بمكناس ، مساء أمس الجمعة ، بالموسيقار المغربي والعالمي أحمد الصياد، فشكل الاحتفاء لحظة وفاء وتقدير لهذا المبدع الذي استلهم أغلب إبداعاته من وحي الطبيعة المغربية فانسابت كحلم جميل. تحدث الصياد ، نجم الأمسية المكرم ، في بداية الحفل بحماسة وحكمة لا تستقيم إلا للكبار، عن عشقه اللا متناهي للموسيقى وعن تعلقه بأصوله المغربية وبارتباطه بالأرض التي انطلق إلى الحياة من تربتها. ولتأكيده أكثر على قوة هذا الارتباط استعار مقولة للحلاج "مثالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب? "، لأن الجذور ، في اعتباره ، لا يمكن فصلها عن الإنسان وإلا فلن يكون لوجوده أي معنى. وتخلل برنامج الأمسية التكريمية عزف ثلاث مقطوعات ألفها الصياد ، "أبدا" سنة 1986، و" إيشو"، وهو اسم امرأة أمازيغية، سنة 2005 و"أركانة" سنة 1997، فأرخت أصوات الكمان والكمان الأجهر (الكونترباص) عزفا شاعريا على فضاء مسرح المعهد الثقافي، وأضفت رومانسية ودفئا على طقس الحفل. فالموسيقار الصياد ، السلاوي المولد (عام 1938) والمكناسي الأصل ، ينتمي إلى عائلة معروفة بالصيد البري وركوب الفرس. فجده ثم أبوه كانا مولعين بهذه الرياضة وممارستها في منطقة الغرب، مما كان له تأثير على شخصيته المبدعة والمنطلقة والمحبة للطبيعة. وقد قاده شغفه بالموسيقي ودراسته العميقة لخبايا كل موسيقات العالم بفرنسا حيث أقام لمدة طويلة، إلى مراكمة تجربة متفردة تستمد روحها من ألوان موسيقية مغربية تراثية أمازيغية وأندلسية وإفريقية منفتحة على موسيقى الآخر، في إيمان تام بالتلاقح الثقافي، فنحت اسمه على صفحات كبار المؤلفين الموسيقيين في العالم. ولأن للتاريخ دور في حفظ ذاكرة المبدعين الذين اختاروا في رسالتهم الإنسانية سلك درب الفن للتعبير عن فلسفتهم ورؤيتهم الخاصة عن انشغالات الإنسان وهمومه وطموحه وأيضا انكساره وتمرده ، وترجمتها موسيقيا أو شعريا أو نثريا أو قصصيا وروائيا، فقد دخله أحمد الصياد من بابه الواسع بفضل فكره الموسيقي المتنور وتعامله مع أشهر الكتاب وأمهر العازفين والأصوات الأوبرالية التي يحفل بها المشهد الموسيقي العالمي. فنمط موسيقى الصياد نابع من روحه، وجذوره تجد امتدادها في الطبيعة المغربية التي لامس كنهها بجولاته واكتشافاته وبحثه الذي مازال متواصلا في مختلف مناطق المغرب عبر سهوله وجباله وأنهاره وأشجاره وطيوره ورياحه وشمسه وأضوائه. وكما يعتبر الأديب والموسيقار الألماني أرنست هوفمان أن "الموسيقى هي لغة الطبيعة الأصيلة وأنها ولدت من الصوت الصادر عنها وأعطى العالم معالم الحياة"، كذلك أحمد الصياد الذي تعامل مع أصوات الماء والأشجار وكل ما تحفل به الطبيعة تعاملا فكريا جسده في مقطوعات تحمل أغلبها تسميات لها علاقة بهذه الطبيعة وجغرافيتها. وما مقطوعات " ذاكرة الماء" و" أركانة " و"تامدا" أو البركة المائية ، و"إسلمان" أو السمك، و"المياه تموت وهي نائمة" و"تيفوناسين" الموقع السياحي الجميل بإقليم كلميمة، وغيرها كثير إلا دليل على قوة تماهي الموسيقار الصياد مع لغة الطبيعة وترجمة صورها والأفكار التي توحي بها إلى موسيقى تحقق له متعة يتقاسمها مع الجمهور. والموسيقار الصياد الذي لم يكل أو يمل في البحث عن مصادر الإلهام في ثقافته الأصلية ليمزجها بثقافته الغربية المكتسبة، كان تلميذا مفضلا للموسيقار النمساوي ماكس دوتش الذي أخذ عنه قواعد التأليف والتحليل، وقوى حسه الفني، فتوجت أعماله بعدة جوائز منها الجائزة الكبرى للموسيقى، كما حصل ، وباستحقاق ، على وسام الفنون والآداب الفرنسي، فصفق له الغربيون كثيرا. وقد ألف الصياد الذي يعتبر الموسيقى فعلا وجوديا يسكنه، العديد من الإبداعات منها أوبرا "الضوء" المستوحاة من كتاب بيرنار نويل عن الحب، و"ذاكرة الماء" سنة 1982، و"أوريليا" سنة 1989، و"الزمن المتمرد" 1980، ومسرحية موسيقية "عقد الحيل" 1977 . ولأهمية الرجل ، اختير كمؤلف موسيقي مقيم بالمعهد الوطني للموسيقى بمنطقة ستراسبورغ، ومؤلفا موسيقيا بمهرجان "موزيكا 94"، وغيرها كثير.