عاشت مدينة فاس من خلال "ليلة المدينة العتيقة"،التي أقيمت الليلة الماضية بمآثر تاريخية وتراثية ودور ورياض تقليدية في إطار فعاليات مهرجان فاس الدولي للموسيقى العريقة،سفرا موسيقيا أخذ الجمهور إلى قلب المدينة وسط تراث هندسي ومعماري كان أساس الثقافة العربية الأندلسية. لقد كان هذا السفر الموسيقى على أصوات آلات العود والرباب والكمان والقانون التي ملأت الأمكنة المكان في ليلة مقمرة،دعوة لاستكشاف شرق آخر،شرق الرحل بسهوب منغوليا،أو جبال الأناضول،شرق الاحتفالية في الوديان الكبرى كوادي النيل،وكذلك موسيقى الحواضر العظيمة التي شكلت متلقى الحضارت. من (الملاح )،ذلك الحي اليهودي بفاس الجديد حيث ينتصب معبد "بن دانان" حتى قلب المدينة العتيقة عند "رياض المقري" القابع عند نهاية عدد من الآزقة الملتوية،قام منظمو المهرجان بإعادة إحياء الأجواء الموسيقية لخانات القوافل حيث كانت تلتقي جماعات المسافرين من مختلف البلدان والقارات. وفي هذا الإطار،احتضن معبد "بن دنان" حفلا أحيته المغنية التركية الشابة غولاي هاسر تروروك،وأدت خلاله أغاني وشعبية من الأناضول تحكي فيها رفقة فرقتها الموسيقية قلق وفرحة أبناء الأناضول واسطنبول،وأخرى بألحان من عهد الإمبراطورية العثمانية أو من التراث الروحي الذي انتقل عبر الأغاني الخالدة لشعراء صوفيين. كما احتضن "رياض المقري" حفلا أحياه الفنان الأفغاني أوستاد غلام حسين ومجموعته وتم خلاله تقديم أغان شعبية وأشعارا صوفية تغرف من ألوان صوتية تتشابك فيها تقاليد الباشتون والطاجيك والبالوشتان على النغمات العذبة ل"عود الربابة"،وتعكس حياة الجبال حيث تعيش هذه الشعوب ذات العمق الروحي الكبير الممزوج بالاعتزاز بالروح القتالية. وفي "سفر( غنائي) يحكي عن العالم" قدمت كاتبة الكلمات والملحنة والمغنية الفرنسية كامي كليمون للجمهور ب"رياض المقري" مجموعة من الأغاني تعبر فيها عن الحزن لكون مدينة القدس ،التي يمكن أن تكون موطنا لكافة أشكال الحوار،قد تحولت إلى "مدينة للتطرف والحرب" رغم أن كل الديانات تحمل رسالة للسلام والتحرر. وب"دار عديل" أقيم حفل غنائي أدى خلاله الفنان إينغ جارغال أغان من تراث الترحال بفيافي منغوليا تسمى أغاني "الخوماي"،وهي أغان تطبعها ألحان ومقامات وأنغام متدرجة،ومرتبطة بالتقاليد القديمة الإحيائية التي ترى أن كل الأشياء والظواهر الطبيعية لها روح أو تسكنها أرواح،مما جعل الغناء بالنسبة لمجموعة الرحل في المناخ القاسي لسهوب منغوليا امتدادا وصدى للعناصر الطبيعية،وتكريما للحيوانات ومنابع ومجاري المياه،والرياح وصخور الجبال ولحفيف أوراق الشجر. في "دار عديل" أيضا أحيى عازف القانون رجب سليمان حفلا فنيا انتقل فيه بالجمهور إلى أجواء تنزانيا التي يقال إن الموسيقى ولدت بها من تلاقي إفريقيا والعالم العربي الإسلامي الذي أعطى لفنها مذاقا خاصا. وكان رجب سليمان مرفوقا بمجموعته الغنائية التابعة لنادي الثقافة الموسيقية التي لها طريقة فريدة في أداء الموسيقى المصرية والتركية ومزجها بمرونة الريبيرتوار الغنائي السواحلي "النوغوما"،ذلك الغناء القروي في تنزانيا. وأتحفت "المجموعة الموسيقية للنيل"،من الصعيد في جنوب مصر،ب"دار التازي"،الجمهور بعروض فنية من "رقصة التنورة" الصوفية التي تذكر فيها الأصوات المنبعثة من المزمار بالغيطة المغربية. و"رقصة التنورة" تعود في أصلها إلى طائفة الميفليفي (الطريقة المولوية بالعربية) وتحيل على طائفة الدروايش الخراطين في البلقان وحلب،وهي رقصة تمثل الكون والشمس،يقوم خلال الراقص بحركة دوران سريعة يرفع خلالها التنورة التي لها ألوان الفصول الأربعة بيده اليمنى التي يرفعها إلى السماء بينما يده اليسرى ممتدة نحو الأرض في حركة ترمز إلى التقاء الأرض بالسماء . وعلى نغمات آلتي "الستار" و"التمباك" أطرب العازفان الإيرانيان المقيمان في كندا،الشقيقان كيا وزيا تباسيان،الجمهور ب"متحف البطحاء" بموسيقى أصيلة مقتبسة من التراث الموسيقي للقرون الوسطى ومن الفن المعاصر،وفية للفن التقليدي الفارسي وتتغذى في نفس الآن من الأشكال الموسيقية للبحر الابيض المتوسط وأوروبا. وتشكل ال" مانيا" التي هي لازمة لكل الأعمال الفنية لهذا الثنائي الفارسي تلك الحالة من الانتشاء التي تحدث عنها أفلاطون،والتي تعنى الاقتراب إلى أقصى حد من شئ غير ملموس وغير مرئي،كطريقة للتحرر من المادة ومن ثقل الذاكرة،وكذا لإعادة خلق الحاضر. في متحف البطحاء كذلك،كان جمهور المهرجان مع حفل آخر عكس الاحتفاء بالمقدس في الحياة اليومية وامتزج فيه إنشاد المغني المنحدر من جزيرة كورسيكا باربارا فورتونا المعبر عن الطقوس الشعبية بالجزيرة أثناء "الأسبوع المقدس " وأثناء المآثم والزيجات،وأداء "فرقة القسطنطينية" للموسيقى الفارسية القديمة والمشهورة باتقانها لمثل هذا الحوار المازج بين موسيقى تعود إلى القرون الوسطى وأخرى إلى عصر النهضة،بين موسيقى من حوض الأبيض المتوسط وأخرى من الشرق.