الشعب الليبي كله معي.. وهم مستعدون للموت من أجلي.. رجالا ونساء وحتى الأطفال» (معمر القذافي) تتشارك الأنظمة العربية التي جرت على نفسها غضبة دولية انتهت بتدخل عسكري في سمتين اثنتين، الأولى: سوء قراءة المناخ الدولي وتطور سياق مصالحه. والثانية: دخول «الزعيم» حالة من «الهلوسة» أو خداع الذات، لا سيما عندما توهم أنه غدا أكبر من بلده وشعبه. هنا لا بد من الاستدراك، للقول: إن المجتمع الدولي ليس دائما على صواب، ولا كل تدخل يستحق التبرير بالمطلق. بل على العكس، ثمة حالات كثيرة تأخر فيها التدخل، أو جاء بأسلوب سيئ فكانت العاقبة كارثية على الجهات التي ادعى حرصه على مصيرها. وكمثال يساق هنا، التلكؤ - أو التواطؤ - الذي انتهى بالمجزرة الجماعية الفظيعة في «جيبي» سريبرينتسا وجيبا المسلمين المحاصرين في البوسنة والهرسك عام 1995. ففي نهاية المطاف المجتمع الدولي تحركه قوى كبرى لها اعتباراتها ومصالحها، وبينها خمس دول تتمتع بحق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي. لكن مع هذا الاستدراك، يظل من أقل واجبات القيادة العاقلة والمسؤولة أن تعي ما يحيط بها من تغيرات، وما يطرأ على مواقف القوى العالمية الكبرى، ذات التأثير المباشر على الأحداث، من تبديل في الأولويات أو الاستراتيجيات.. أو حتى التكتيك. في السياسة لا توجد ثوابت، وكذلك بالكاد توجد مبادئ يستحيل تبرير تجاوزها. ولذا يفترض بالقائد الحصيف ألا يسيء تقدير قوته، بقدر ما عليه ألا يحسن الظن أو يتصور ضعف العزيمة عند الآخرين. صدام حسين، مثلا، أساء قراءة المتغيرات الدولية، فلم يستوعب معنى انتهاء «الحرب الباردة» وسقوط «جدار برلين» وانفراد الولاياتالمتحدة بالأحادية على المسرح الدولي، ولذا تلاعب وراوغ وعطل التفتيش الدولي. ثم زها بقوته وقدرته على إذلال القوة العالمية الوحيدة في العالم بجعل صورة رئيسها جورج بوش الأب أرضية يدوس عليها الداخل والخارج من أحد فنادق بغداد. لكن، كما قال الشاعر: هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان وحقا جاء صدام بعد بضع سنوات «الزمن الذي لا يسره» مع تولي جورج بوش الابن وشلته من غلاة «المحافظين الجدد»، فكان ما كان من أمر. اليوم يعصف بالشرق الأوسط كله إعصار غير مسبوق، ويكاد يكون غامضا وعصيا على الفهم حتى للعقلاء الذين انكفأوا إلى داخل التخمين والتساؤل والمراجعة. ولذا يبدو غريبا جدا أن نرى من البعض مكابرة وإنكارا غير مسبوقين، وكأنهم في كوكب آخر. ولكن، لئن كانت حالة العقيد معمر القذافي شبه مفهومة، وكذلك حالة من خلف لليبيا من البنين غير الواعدين، فكيف يمكن تفسير حالات ساسة آخرين ممن أطالوا كثيرا فترة حكم الشعب باسمه، ولكن كما تشير التطورات الأخيرة، على الرغم منه أيضا؟ معمر القذافي لم يجد غضاضة في القول إن شعبه مستعد للموت من أجله. وهنا نحن إزاء وضع مقلوب تماما عن وضع الزعيم الذي يفترض به شعبه أن يكون مستعدا للموت من أجل الوطن. غير أن القذافي، وإن كان نموذجا متطرفا، فإنه لا يشكل نموذجا فريدا أو وحيدا بين الجمهوريات الملكية - أو «الجمالك» - العربية. ففي اليمن، هناك «حرب» خطيرة تتصاعد وتيرتها وتتفاقم كل يوم، ومع هذا لا تبدو في الأفق، مع الأسف، صيغة حل يعتد بها. بل إن ما حصل ويحصل راهنا، يأتي في سياق سوء قراءة الحكم للمناخين الإقليمي والدولي، كذلك فإن التأخر الكبير في اكتشاف تحضيرات «الظاهرة الحوثية» والتعامل معها بفاعلية في الوقت المناسب، أربك الحكم المنشغل في مشروع التوريث، والمرتبط بالحرب العالمية على إرهاب «القاعدة»، والرافض إدراك أهمية المعالجة السلسة لأزمة الجنوبيين. الرئيس علي عبد الله صالح قدم تنازلات؛ فألغى التجديد وصرف النظر عن التوريث، لكنه بدأ بتقديم التنازلات متأخرا.. كما فعل مع التهديد الحوثي. في مكان آخر، بعد «ثورتي» تونس ومصر، بادر الرئيس السوري بشار الأسد إلى استبعاد امتداد الشرارة إلى سورية، غير أنه استخدم حجة غريبة بعض الشيء هي أن ما يحصن الحكم السوري هو «العداء» مع إسرائيل. وهذا، على أساس أن كلا من نظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك محسوب دمشقيا في خانة «الاعتدال» إزاء إسرائيل. ربما يبدو هذا الكلام مقنعا ومنطقيا للعامة، غير أنه يستبطن وجود «عجز» إسرائيلي عن ضرب الخصوم، والرئيس الأسد نفسه يدرك أن هذا «العجز» - مع الأسف - غير موجود. فالحقيقة أنه لا إسرائيل ولا الولاياتالمتحدة تحولت بقدرة قادر إلى «نمر من ورق». والمسألة برمتها مسألة مصالح، بعضها قصير الأمد وبعضها الآخر طويل الأمد. ثم إن الرهانات الخطيرة في منطقة باستراتيجية الشرق الأوسط أكبر بكثير من الاصطفاف اللفظي والمناورات الكلامية. و«الشرق الأوسط الجديد» الأميركو - إسرائيلي، الذي تزعم جهات في المنطقة تدعي «الراديكالية» أنها كرست سلاحها ومستقبلها وشارعها لمقاومته وإسقاطه، لا يبدو أنه بالضرورة، وفي هذه اللحظة على الأقل، ضد مصالح هذه الجهات ومصالح رعاتها. فالتمدد الإيراني داخل العالم العربي، وأحدث نماذجه، بعد العراق ولبنان، ما يحدث في البحرين، ما زال مسكوتا عنه أميركيا، بل في حالة العراق فإنه يتحقق بتفاهم ضمني. غير أن امتداد شرارة أحداث تونس ومصر، وتاليا ليبيا واليمن، إلى سورية - إذا امتدت - فقد يعني أمرين، كلاهما غير مريح، الأمر الأول: أن الوقت قد حان لتغييرات كيانية جغرافية في المشرق العربي ككل. والأمر الثاني: أن معايير تعاطي واشنطن وتل أبيب مع لاعبي المنطقة قد تبدلت بدرجة ما عاد معها «التوازن» الإقليمي أولوية للعاصمتين. ولهذا يصح التساؤل: لمصلحة من سيكون «الشرق الأوسط الجديد»؟