قبل نحو عقد من الآن، كان العالم منشغلا بالسياسة الأميركية الجديدة بعد تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول)، حيث كان المزاج في واشنطن رافضا للأوضاع في المنطقة، وبوش دشن مبدأ الحرب الوقائية واعدا، ليس فقط بتدمير محور الشر، بل أيضا بنشر الديمقراطية في المنطقة التي ظلت عصية عليها. لكن بدلا من أن تغير أميركا المنطقة، يبدو أن المنطقة هي التي أخذت تغير أميركا. فوعد بوش سرعان ما تحول إلى كارثة عراقية لم تؤد فقط إلى تقوية «القاعدة» وإيران، الخصم الرئيسي لأميركا وأحد أطراف محور الشر البوشي، بل إن المنطقة أثبتت قدرة على تحويل العراق إلى درس لأميركا بقدر ما كانت هي تريده درسا للمنطقة. بدلا من الدمقرطة والاعتدال ونقل النموذج الغربي، غدا العراق ساحة صراع إقليمية ودولية وخط دفاع أماميا لكل من أراد أن يقاوم التغيير كما تخيله الرئيس بوش. الأهم من ذلك، لم يكن نموذج الدمقرطة عبر الاحتلال الخارجي جذابا لشعوب المنطقة، لأنه ينطوي على تناقض صارخ، بين تحرير الناس من الديكتاتورية، وفرض سيطرة أجنبية وإعادة كلمة الاحتلال الأجنبي لقاموس منطقة تعلمت طويلا أن الحرية والاحتلال لا يجتمعان. لكن ما نراه اليوم هو أن المنطقة أخذت تشق طريقها نحو التغيير، ثورات واحتجاجات وانتفاضات أطلقتها حادثة الشاب التونسي الذي أحرق نفسه، ولكنها خلقت وعيا جديدا بإمكانية التغيير لمجتمعات يؤلف الشباب غالبية ساحقة من أفرادها، في مواجهة أنظمة بعقلية آبائهم وأجدادهم، عاجزة عن أن تستوعب مطالبهم المتصاعدة، كما أنها عاجزة عن قمع تحركهم بالوسائل التي اعتادتها. في الوقت الذي قاد فيه الشباب هذه التحركات الشعبية، فإن عجز الأنظمة عكسه شيوخها الذين، عبثا، حاولوا أن يعطوا الانطباع بأنهم لا يشيخون. التغيرات كانت خارج نطاق التوقعات، وكانت أسرع من الجميع، بما في ذلك القوة العظمى التي فكرت يوما بتغيير المنطقة على طريقتها. لقد كانت الحكمة السائدة منذ زمن الحرب الباردة هي أن الأميركيين والدول الغربية يفضلون بقاء الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط، ويخشون من ديمقراطية قد تؤدي إلى تمكين الإسلاميين، وطالما كان يجري الحديث عن «الاستقرار» كأولوية أساسية للغرب في الشرق الأوسط. ولكن يبدو أن هذه الحكمة أخذت تُدفن تحت وقع التغييرات السريعة، ولم يعد من السهل الحديث عن الاستقرار بمعزل عن الحرية. لقد تأخرت الاستجابة الأميركية والأوروبية للتحرك الشعبي في تونس ومصر وليبيا، وقد كان واضحا أن الغرب لم يبلور استراتيجية واضحة، وأنه وضع قسرا أمام اختيار التعاطي مع مطالب المنتفضين، وكانت مصر خطا فاصلا، ليس فقط لأهميتها الاستراتيجية، بل أيضا لأن الثورة فيها هددت نظاما يرتبط بأميركا بتحالف وثيق. وعند النقطة التي قرر فيها الرئيس أوباما وإدارته الوقوف إلى جانب التغيير في مصر، يمكن القول إن الاستراتيجية الجديدة أخذت بالتشكل دون الادعاء أنها تبلورت تماما. إنها الآن استراتيجية تقوم على تجنب الوقوف إلى جانب الأنظمة عندما تصبح بمواجهة ثورة شعبية، وتجنب المراهنة عليها عندما يبدو أن التذمر الشعبي ينذر بالثورة. فالتحرك الشعبي إما أنه سوف ينتصر بأي حال عندما يكسر الناس حاجز الخوف، ويصبح خروجهم إلى الشارع أقل تكلفة من بقائهم في البيوت، وبالتالي تكون الولاياتالمتحدة قد خسرت فرصة الرهان على الحصان الرابح، أو أنه لن ينجح في إحداث تغيير جذري، وفي هذه الحالة تكون أميركا تجنبت الوقوع في التناقض بين دعمها الآيديولوجي للديمقراطية ووقوفها بالضد منها في بعض البلدان. كما أن السياسة الخارجية الأميركية لا تصنع فقط عبر تأثير المصالح الخارجية، لا سيما في حالات من هذا النوع، حيث تكون الأحداث الخارجية قد جذبت الرأي العام الأميركي وخلقت نقاشا داخليا. ومع حقيقة أن وسائل الإعلام الأميركية في عصر الإنترنت والجزيرة الإنجليزية، لم تعد قادرة على احتكار نقل ما يجري في العالم الخارجي وفلترته بما ينسجم مع مصالح النخبة في واشنطن، فإن اهتمام الرأي العام يخلق ضغطا يفرض على أي إدارة أميركية أن تتجنب الوقوف موقف المتفرج، أو تتبنى سياسة تناقض مقولاتها الأخلاقية. وبالطبع هنالك نقاش واسع اليوم في أميركا وأوروبا حول ما يجب فعله تجاه الأحداث المتسارعة في المنطقة، وإلى حد كبير تراجعت مسألة التخويف من الإسلاميين، ويبدو أن هنالك قنوات فتحت للحوار معهم في تونس ومصر وليبيا، وربما مناطق أخرى. الإسلاميون أخذوا يتصرفون ببراغماتية أكبر، وهم يقدمون أنفسهم بنسخ جديدة تحترم الديمقراطية، على الأقل خطابيا، ولا تسعى للاصطدام بالمصالح الغربية. لذلك فإن العمود الثاني للسياسة الأميركية التقليدية أخذ بالتغير بدوره، دون القول إنه تغير تماما، فما زال الجميع في انتظار أول انتخابات حرة ستجري في تونس ومصر للحكم حول مدى شعبية الإسلاميين، وطبيعة أجندتهم. المسألة الأخيرة التي يجب ذكرها هنا، أن هذا التعاطي الأميركي مع الحقائق الجديدة في المنطقة ليس نتاجا لإرادة ذاتية تعرف ما تريد، بقدر ما هو تعبير عن حقيقة أن العالم كله يتغير إلى الحد الذي لم تعد أميركا قادرة على فرض حدود للتغيير، أو التحكم بمجرياته. فالرهان بأن أي شيء في المنطقة لا بد أن يمر عبر واشنطن، بما في ذلك، بل وفي مقدمته، تغيير الأنظمة أو إصلاحها، بات رهانا خاطئا. التغيير يمكن أن يحصل بعيدا عن الإرادة الأميركية، والأكثر من ذلك، أنه قد يؤدي إلى تغيير أميركا نفسها.