مع استمرار نشوة الحديث عن التغييرات الثورية الشبابية في مصر وتونس التي كشفت العديد من الكوارث والمصائب التي كانت تسير بها الأمور، فاضحة للفساد والمفسدين والاستبداد والمستبدين، يحاول الكثيرون معرفة حدود التماس بين الثورة كحركة تحرير عفوية متنامية وصادقة، ودور المؤسسة العسكرية في كل ما حدث، وكذلك موقف قوى الغرب عموما، والولاياتالمتحدة الأميركية تحديدا. هناك حراك شبابي عفوي وصادق حصل نتاجا لمحاولات وتراكمات سابقة قام بها محامون وإعلاميون وساسة ورجال دين في تونس ومصر؛ كل بما أوتي، وكانت، بالتالي، الأرضية مناسبة لإحداث ما يسمى بنقطة التحول Tipping Point وانفجرت الأمور وخرجت عن السيطرة. ولكن إذا تمعنا قليلا في المشهد التونسي، نجد أن الجيش رفض إطلاق النار على الشعب، وأدرك الرئيس أن وضعه حرج، وتم إقناعه بأن لديه مدة ثلاث ساعات لمغادرة القصر للمطار وإلى خارج تونس لفترة مؤقتة (لأن، بحسب إعلان محمد الغنوشي، الرئيس لم يتنح ولكن فوضه في إدارة شؤون البلاد) وهذا مخالف للدستور التونسي، بحسب ما تم توضيحه عقب إعلان الغنوشي من قبل خبراء دستوريين، حتى إن الرئيس بن علي كانت لديه قناعة بأنه عائد لتونس بعد 48 ساعة حينما يتمكن الجيش من تهدئة الوضع، وهو أبلغ طيارته الخاصة بذلك، بحسب أحد المصادر الموثوقة، وطبعا سيطر الجيش على الوضع في الخلفية، وبدأت رحلة ما بعد بن علي في تونس. وكذلك الأمر في مصر.. فمع الضغط الشعبي العام المتزايد وبقاء الجيش في موقف وسطي يحترم مطالب الشعب بالتظاهر ويحمي المنشآت ولا يتعرض للمظاهرات، وبإعلانه عن «احترامه لرغبات شعب مصر العظيم»، أعلن موقفه أنه حامي البلاد وليس بحامي الرئيس، حتى كان يوم الحسم الذي توقع فيه الناس أن يخطب مبارك فيهم معلنا تنحيه، فجاء بكلمة اضطرت الجيش للتدخل حاسما بإجبار عمر سليمان أن يعلن للناس كلمة مقتضبة (غير دستورية ألبته!) وهي تنحي مبارك وتسليم المجلس العسكري الأعلى شؤون إدارة البلاد، لأن الدستور ليس فيه تنحّ، وإذا خلا منصب الرئيس، يتولى رئاسة البلاد بصورة مؤقتة رئيس مجلس الشعب، ولكن الجيش كان هو سيد الموقف وكان له ما كان. الولاياتالمتحدة الأميركية ترى في الجيشين؛ التونسي والمصري مؤسسات عريقة لها احترامها في بلادها، ووطنية غير مسيسة ولم يطلها الفساد، ونظامها الداخلي واضح وصريح، والتسلسل الهرمي فيها لا لبس فيه، إضافة إلى أن هناك تعاونا تدريبيا قديما بين الطرفين واطلاعا مستمرا على الثقافة الغربية من ديمقراطية ومحاسبة ومشاركة وليبرالية اقتصادية.. وبالتالي، لن يكون هناك عداء كبير لها، إضافة إلى أن ما حدث في ثورتي تونس ومصر (وكل الحركات الشعبية في الشرق الأوسط)، هو أثر الحراك الغربي المبني على الحريات والمشاركة الشعبية والتمثيل البرلماني والمكاشفة والمحاسبة، حتى الحركات الدينية المتشددة كافة مثل حزب النهضة في تونس أو حركة الإخوان المسلمين في مصر، بل وحتى المنظمات المعروفة بتعصبها، اضطرت لتخفيض خطابها الديني السياسي لينسجم مع الحراك الأكبر حتى لا يكون شاذا، لأن هناك قواعد جديدة للعبة السياسية، كما بدا واضحا من المطالبات العامة. ويبدو أن الغرب بات يشجع النموذج التركي في العالم الإسلامي على أن ينتشر؛ المبني على جيش قوي وفعال، وحراك شعبي من البرلمان الفعال، ومؤسسات المجتمع المدني التي تسمح بوصول مسلمين (وليس حركات إسلامية) للحكم فيها. وهذا السيناريو قابل للتكرار بحسب ما هو مفهوم في الأردن واليمن والجزائر على سبيل المثال. أما ما يحدث في ليبيا، فهو فوضى، لأن البلاد أسست لمدة أربعين عاما على إلغاء البرلمان والأحزاب والدستور والجيش، وإبقاء حالة من البوهيمية السياسية لإضعاف المجتمع وجمع الحكم كله في شخص القذافي وابنه من بعده. ولكن نظام القذافي لم يستطع إلغاء دور القبيلة، وهي العقبة الأخيرة اليوم أمام تحول ليبيا إلى مجتمع مدني بدأت ثماره تأتي بتشكيل مجلس وطني عقلاني. تونس ومصر وليبيا حالات مختلفة، ولكن فيها مسائل كثيرة تحتاج إلى الاستيعاب.