هل يكون النظام الليبي وقيادته سببا أو ذريعة لإعادة احتلال ليبيا، في هذه الصورة أو تلك؟ أيا كان الجواب، فإن هذه «فرصة زمنية» واسعة لإعادة قراءة وقائع وحقائق وظواهر تنطق بحقيقة شديدة المرارة، وهي أن الطغاة المستبدين كانوا دوما - بوجودهم وبزوالهم - ذريعة للاحتلال أو الاستعمار الأجنبي لبلدانهم! وهذه هي الأمثال: 1) المثل الأول هو: الطاغية الألماني أدولف هتلر، فقد كان عالي الصوت ضد «التسلط الأجنبي» على بلاده، لا سيما بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنه هو نفسه الذي تسبب في احتلال ألمانيا واستعمارها عقودا متتابعة على يد الحلفاء المنتصرين عليه في الحرب العالمية الثانية. كان هتلر يلعن - بأقواله - أعداء ألمانيا، في حين أنه كان بفعله وسلوكه يستدعي هؤلاء ويغريهم بفرض وصاية غليظة شاملة طويلة الأمد على بلاده. فسياسته الحمقاء تجاه بولندا وتشيكوسلوفاكيا - وغيرهما - كانت سببا موضوعيا في تكتل أوروبا والولايات المتحدة وعزمهما على سحق ألمانيا عبر هزيمة عسكرية ماحقة ثم تمزيقها وتوزيع أسلابها على المنتصرين: الاتحاد السوفياتي سابقا من جهة؛ وأوروبا وأميركا من جهة أخرى، حيث ظفر السوفيات بألمانياالشرقية، وظفر الطرف الآخر بألمانياالغربية.. والسبب الدفين وراء هذه السياسات الغبية الخائبة هو «الاستبداد»، فعلى الرغم من أن هتلر قد وصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، فإنه لم يلبث أن تحول إلى دكتاتور مطلق يتفرد بالرأي والقرار ورسم السياسات المتعلقة بمصائر ألمانيا كلها.. مثلا: قبيل نزول الهزيمة الكاملة بألمانيا كان هناك من يحاول أن يهمس في أذن هتلر بأن ألمانيا توشك أن تخسر الحرب، بيد أن الطاغية المستبد كان يكابر ويقول: هذا كلام فارغ. فلا يزال عندنا رصيد عسكري كبير.. هاتوا بسرعة الفيلق الفلاني لينضم إلى الجبهة الفلانية. فإذا قيل له: إن هذا الفيلق قد دمر، اشتعل انفعالا وغضبا وقال: لا تكذبوا علي، فأنا متأكد أن هذا الفيلق في طريقه إلى أداء مهمته.. وربما اقترحنا على قادة عرب أن يشاهدوا أحد الأفلام الموثقة عن «آخر أيام هتلر». وبهذا الانغلاق والاستبداد والعناد انهزم هتلر. وصدق الله: «وخاب كل جبار عنيد».. هكذا.. (كل) جبار عنيد: بلا استثناء قط، ذلك أن الخسران المؤكد ماثل في طبيعة الاستبداد، ومن شاء أن يقارن بين هتلر والقذافي فليفعل، فلا يزال الأخير ينكر الوقائع على الأرض: وقائع خروج الليبيين في مظاهرات عاصفة ضده.. ينكر الوقائع ويقول: إن الشعب يحبني ويفديني بدمه! 2) المثال الثاني على أن المستبد يتسبب في احتلال بلاده هو: صدام حسين؛ فمما لا شك فيه أن هذا الرجل قد أدار شؤون العراق بطريقة موغلة في الاستبداد، ولم يكن الحزب الذي ينتمي إليه، ولم تكن المجالس النيابية «!!!» إلا طلاء لنزعة الاستبداد عنده؛ في الرأي والقرار والموقف، وبهذا الاستبداد احتل الكويت وأصر على الاحتلال حتى دحر منها بالقوة.. ولا يزال يستبد، ويهيئ الذرائع للأجنبي حتى غزى العراق واحتل، وحتى شنق هو (وألاعيب الغازي وأكاذيبه في أسلحة الدمار الشامل لا تنفي طبيعة الاستبداد في شخصية صدام حسين). وقد نلتقي في فقرة تالية بسيناريو «لعبة الانحطاط والتمثيل» بين المستبدين والمحتلين. 3) المثال الثالث عن العلاقة المبدئية والوظيفية بين المستبد والمحتل هو: ما يجري اليوم في ليبيا؛ فلا نتصور أن زعيما قد كرر لعن الاستعمار مثلما فعل القذافي، بيد أنه هو نفسه الذي قد يستدعي الاحتلال إلى بلاده بسلوكه الدموي المتوحش ضد شعبه وبمقولاته التيئيسية مثل: لن أتخلى عن الحكم قط. سأجعل ليبيا كتلة من الجمر. سأجعل ليبيا أنهارا من الدماء. إما أنا.. أو خراب ليبيا وزوالها. فهذه المقولات والمواقف التيئيسية قد تهيئ الأذهان لفرضية: أن نجاة الليبيين لن تكون إلا ب«قمع خارجي» للدكتاتور وميليشياته المتعطشة للدماء، الجائعة إلى الجثث. والاقتناع قائم بأن تمام موضوعنا هذا يَمثل في محور جديد في السياق ذاته: محور «العلاقة الخسيسة المشبوهة» بين الاستبداد والاحتلال، ودعك من «البراءة المفاجئة» التي يتظاهر بها الغرب، أي براءته من الدكتاتوريات، فثمة وقائع عديدة تثبت العلاقة «الوظيفية» بين المستبدين والمحتلين: أ) عام 1935 كانت هناك علاقة حسنة بين إنجلترا وبين هتلر، وبمقتضى هذه العلاقة الحسنة وافقت بريطانيا على أن يخرق هتلر أحكام معاهدة فرساي الخاصة بتحديد قوة ألمانيا البحرية، كما تساهلت بريطانيا على نحو سخي جدا في عدد وحمولة الغواصات التي يمكن لألمانيا بناؤها. ومن بعد عقد تشيمبرلن - رئيس وزراء بريطانيا يومئذ - اتفاقية مع هتلر، وحين عاد إلى لندن خاطب مواطنيه بقوله: «لقد جلبت لكم السلام مع الشرف». وكانت هناك علاقة ما بين النازي والولايات المتحدة الأميركية؛ ففي ذروة تعاظم النفوذ النازي أبرق القائم بالأعمال الأميركي في برلين إلى واشنطن بالبرقية التالية: «إن الأمل في ألمانيا يتوقف على الجناح المعتدل في الحزب الذي يقوده هتلر الذي يخاطب كل الأشخاص المتحضرين والعقلاء»! ب) وكانت هناك علاقة بين صدام حسين والأميركيين، وهي علاقة بدأت قبل وصوله للسلطة، ثم امتدت - من بعد - إلى عقود عديدة. ومما يصل إلى مرتبة المعلومة اليقينية في هذا الشأن أن الأميركيين كانوا يمدون صدام حسين بمعلومات حيوية عن الجبهة الإيرانية إبان الحرب العراقية - الإيرانية المعروفة، ومن ذلك أيضا أن الاستخبارات الأميركية هي التي كشفت لصدام حسين مؤامرة حبكها ضده عدنان طلفاح وزير الدفاع العراقي الذي قتل في تفجير طائرته العمودية. (عدنان طلفاح ابن خال صدام حسين). ج) ولقد استفاض الحديث عن العلاقة بين القذافي والغرب منذ استيلائه على السلطة عام 1969. وعلى الرغم من الضجيج الإعلامي المتبادل بين الطرفين، فإن الاتصالات المكتومة أو السرية لم تنقطع قط؛ بل قيل إن مخابرات غربية قد أحبطت عددا من المحاولات الانقلابية ضد معمر القذافي. وبديهي أن حمايته والحرص على بقائه يدلان على علاقة وظيفية بين الطرفين المتنازعين (ظاهريا). ثم كانت أزمة «لوكربي» التي اتهم فيها النظام الليبي بتفجير طائرة مدنية أميركية، وبسبب هذه الأزمة توترت العلاقات تحت ضغوط أهالي الضحايا، ثم سويت الأزمة من خلال صفقة كبيرة، هذه خلاصتها: يقدم معمر القذافي ملفات الإرهابيين الذين كان يتعامل معهم عبر العالم، والملف النووي الذي كان بحوزته، أي ملف علماء نوويين كان يتعامل معهم ومنهم العالم النووي الباكستاني الشهير عبد القدير خان. أما الطرف الغربي، فيتعهد ب«عدم تغيير النظام في ليبيا». وهناك من يرجح أن علة التباطؤ الغربي في إدانة القذافي هو مراعاة هذا التعهد الغريب المريب! ومن هنا نقول: ليس في كلامنا ذرة من الإيحاء بأن الاستعمار أو الاحتلال يمكن أن يكون أداة لقهر الطغيان في أي بلد. أولا: نظرا لهذه العلاقات الخفية المشبوهة بين الاستبداد والاستعمار. ثانيا: لأن حالة العراق مرعبة؛ إذ حل محل طغيان صدام طغيان آخر في صورة أخرى. ثالثا: لأن الاحتلال ذاته من أسوأ وأحط أنواع الطغيان، حيث يتمثل فيه: احتلال الأرض، وإلغاء إرادة الشعوب، ونهب خيراتها، والتكبر عليها. ومن المفارقات المذهلة أن الطغيان الاستعماري حصل بموجب «قرار ديمقراطي»، بمعنى أنه قرار اتخذته حكومات غربية منتخبة، وهذه عجيبة تضم إلى عجائب الدنيا السبعين، لا العجائب السبعة فحسب!!