حوارٌ تاريخي فلسفي في كتاب الباحث بودبوس بعنوان «الفوضوية» دار بين برودون الذي عاش من 1809-1865، وصديق له عاش عام 1840، فيسأله عن أي شكل من أشكال الحكومة يفضل هل هو جمهوري؟ فيجيب صديقه: نعم ولكن كلمة جمهوري لا تعني شيئاً بالنسبة إلي سوى أنها تعني الشيء العام الذي يرغب الكل فيه. ثم يسأله تحت أي شكل من أشكال الحكومة يمكن أن نكون جمهوريين والملوك أنفسهم جمهوريون، فهل تعني أنك إنسان ديموقراطي؟ من تكون أنت يا صديقي؟ فيجيب «أنا فوضوي». الفوضوية على النقيض تماماً مما يتبادر إلى الذهن البشري لأول وهلة، هي ليست غياب النظام، ولا الغوغائية اللامسؤولة، إنها ببساطة شديدة تلك الحالة التي يصل إليها المجتمع، وقد تطور حتى يستغني عن أي تنظيم خارجي مفروض. هي حالة تحلُّ فيها الأخلاق محل القانون والبوليس والسجون. قد تكون مأساة لكنها ضرورية في كل وقت وزمان من أجل أن تخدش وجه عالم قاتم يغشاه الاستلاب والنفي. هي مصطلح اللاسلطة وعدم النظام بسبب غياب السلطة المنظمة، ورفض أي تنظيم دولي ينسب دولاً مفروضة على الفرد من أعلى، هي تظهر عندما يختفي الإقناع والترغيب ويحل محله القسر والإكراه، لتعلن عن رفض للسلطة وسيطرة الإنسان على أخيه الإنسان الذي سيرفض بدوره الدولة كاملة، وينخرط في مسار الفوضوية، كما سيرفض كل النظريات الدستورية تحت طائلة مسميّات معارضة. الفوضوية بداية لتمرد عصياني يوجه ضد السلطة القائمة، ثم يؤدي إلى انقلاب حركي رافض للسلطة وهادف إلى الحلول مكانها، ثم تبدأ بالمطالبة بالإصلاح الذي يمثل مرحلة جديدة على طريق الثورة بمعناها الحقيقي. ما حدث في تونس ومصر تعبير لهذا المعنى، وإن تفاوت شكل الثورة ومراحلها ما بين تونس ومصر، لكن مسألة المطالبة بالإصلاح تبقى هي الأساس الذي طغى على مراحل هاتين الثورتين. والواقع أن ما غاب عن أذهان الثائرين في مسألة المطالبة بتعجيل الإصلاحات هو أن عملية الإصلاح في العالمين العربي والإسلامي تبقى أسسها مستمدة من مصادر التشريع الأساسية وهي كتاب الله وسنة نبيه، لذلك ستظل مسألة المطالبة بالإصلاحات تمثل في رأيي رد فعل على تراجع الإسلام كدين داخل المجتمع العربي بصفة خاصة، نتيجة للانحطاط والتردي الفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي. لذلك يخطئ كثيراً من يتوهم من الأحزاب التي تتخذ من الإسلام شعاراً لها في عالمنا العربي، عندما تتصور أن بإمكانها تقديم إصلاحات لأبناء المجتمع العربي سياسية واجتماعية واقتصادية شاملة تحت مسميات إسلامية، إذ كيف يتحقق لها ذلك والدين الإسلامي في المجتمع العربي يتراجع إلى الوراء بسبب علمائه وفقهائه؟ كما أنها كأحزاب دينية لا تسعى في حقيقة الأمر إلا لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية خاصة بها، حتى وإن كان ذلك بمجهود الآخرين وليس بمجهودها هي! إن الثورات التي اندلعت في تونس ومصر لم تقم على أساس المطالبة بإعادة إحياء الوعي الديني للمجتمعين التونسي والمصري، وصولاً إلى تمكينه من إدراك المخاطر الداخلية والخارجية التي تهدد الأمة بالتمزق والاندثار، وإنما قامت من أجل تحقيق أهداف ومطامح خاصة بها مثل المطالبة بالحرية، وحرية التعبير والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتحقيق مبادئ حقوق الإنسان، وتغيير سياسي للنظام الحاكم، والمطالبة برحيل رأس النظام، فهي إذاً ذات أهداف محددة داخل حدودها وخاصة بمجتمعها، وليست ذات أهداف عامة وشاملة، بحيث تكسب الثورة مفهوماً واسعاً يمكن معه القول بأن الإسلام أعيد إحياؤه من جديد. لا أعلم إذا كان شباب 25 يناير في مصر ومن قبلهم الشباب في تونس لديهم وعي كاف بمفهوم الثورة التحررية في التاريخ، أو أن ما قاموا به كان رد فعل ورفضاً للفساد والظلم والطغيان في مجتمعهما فقط، إذ إن ما قاموا به أحدث تفجيراً وهزة عنيفة لما هو معروف عن طابع الثورات في التاريخ الرافضة لواقع معين، لكنهم لم يعطوا انطباعاً حقيقياً عن تمكنهم من إظهار قدرة الثورة التحررية على الفعل من خلال اتصالها العميق به وانفصالها الكلي عنه، أو توظيف الثوار لمعرفتهم العميقة بمعنى الثورة بهدف تدميرها إلى الأبد بعد انفجارها! هزة الثورات هي بداية تحول الحياة الإنسانية من الإحساس بالوجود لتحقيق الذات إلى المغامرة بالموت، ولهزتها أثارٌ عميقة تنعكس على علاقة الإنسان بواقعه، فتجعله يدرك في النهاية مدى اغترابه عن ذلك الواقع، وفقدانه لاتساقه الفكري والنفسي ولأهدافه أيضاً، وتصل به إلى مرحلة جدلية تلتقي فيها كل معرفته الذاتية باختياره الموضوعي، فيقبل بواقعه الذي فرضه هو بنفسه، ويجهد ويجتهد من أجل تجاوزه في الوقت نفسه. التاريخ يحدثنا كثيراً عن العديد من دعاة الثورة الذين بدأوا ثواراً وانتهوا أمام ترددهم أو هروبهم من نتائج مشاريعهم الثورية، مستسلمين لذلك الواقع الذي أرادوا الثورة من أجله، وأحياناً ينقلبون مضادين لمبدأ الثورة ذاته، بعد أن تنتهي نشوتها ثم يصدمون بنتائجها. الثورة الحقيقية هي انتقال نوعي وكلي بالوعي الفردي والجماعي على حد سواء ضد الاستبداد الكائن، والانتقال بالإنسان إلى واقع ثوري وطني يجب أن يكون عليه، بحيث يدفن كل القديم في الجديد بهدف تحقيق المبادئ، ولا يترك مجالاً للتركيب بينهما كما يقول في ذلك المؤرخ الفيلسوف هيغل. إن عهود الثورات الفكرية كانت دائماً هي المتقدمة في التاريخ على غيرها من العهود السياسية والاجتماعية الأخرى، لأنها تنتقل بالشعوب من مرحلة التقبل السلبي للواقع المرير إلى مرحلة العمل على تغييره إلى واقع أفضل، ومن مرحلة الاحتمال السلبي إلى مرحلة التحمل الإيجابي. لا أظن أن ما ذكرته دار في خلد شباب 14 يناير في تونس، ولا في ذهن شباب 25 يناير 2011 في مصر، فمن الواضح أن كلتا الثورتين قامتا بعفوية من أجل تحقيق أهدافهما، ولهذا فمن الظلم التاريخي أن تضيع مكتسبات هاتين الثورتين الشبابيتين ويتم استغلالها سياسياً، إذ إن من العدالة التاريخية أن يجني الشباب ثمار غرسهم، فهم من سيصنع مستقبل التاريخ بعد أن سطروه بدمائهم. فلتخلُ الساحة لهم وليبتعد كل الانتهازيين وذوو المصالح الخاصة ممن يطلق عليهم مسمى أحزاب معارضة بمختلف أيديولوجياتها، كي يواصل الشباب مسيرة ثورتهم، ويتحاوروا بشكل إنساني وحضاري مع السياسة القائمة الآن وفي المستقبل في تونس ومصر، حتى يتمكنوا من الإمساك بزمام الأمور عندما يحين الوقت.