في هذه الذكرى الأليمة، ذكرى مرور خمس سنوات على رحيل الحكيم الحاضر دائماً وأبداً في ذاكرتنا وذاكرة شعبه ووجدانه من خلال ما تركه لنا وللاجيال القادمة من تاريخ مشرق وإرث نضالي ومخزون لاينضب من التجارب والخبرات في العمل الثوري الوطني التحرري الذي إمتد أكثر من ستين عاما من التضحيات والنضال الدؤوب والعطاء اللامحدود. بذل الحكيم خلال هذه السنوات الطويلة كل ما يملك من جهد وفكر وعلم ومعرفة، وتفانى في سبيل الارتقاء بشعبنا وقضيتنا العادلة لتكون محور قضايا التحرر الوطني في العالم ،وطرح القضية الفلسطينية على جدول أعمال كل القوى الحرة المساندة لشعبنا كي تبقى القضية حية في ضمائرهم .ان شعباً بعظمة الشعب الفلسطيني لن يفنى ولن تندثر قضيته طالما أن هناك دم يجري في عروقه. في مثل هذه المناسبة الحزينة استذكر خمسين عاماً قضيتها الى جانب الحكيم في مسيرته النضالية الشاقة، استذكر المرحلة العظيمة من حياتنا المشتركة بكل فخر واعتزاز لصمودنا بكل شموخ وعزة وقوة في مواجهة كافة التحديات والتجارب الصعبة والمعقدة بكل ما تخللها من إنتصارات وإخفاقات ودروس وعبر. لم تكن حياتنا مفروشة بالورود ولم نكن نعيش في برج عاجي بعيداً عن هموم شعبنا وثورتنا، بل كانت حياتنا محفوفة بكثير من المخاطر والمنعطفات والتضاريس الوعرة لكنها كانت مفعمة بالامل والايمان والتحدي والتصميم على مواصلة الكفاح الى جانب شعب قرر أن يدفع الغالي والنفيس في سبيل إستعادة حريته وكرامته وأرضه المغتصبة من براثن العدو الصهيوني الذي حرمه من حقه بالحياة الحرة الكريمة. ربط الحكيم مصيره بمصير شعبه وكرس حياته ليتفرغ للنضال الوطني والعمل الدؤوب من أجل تحرير الارض وتحرير الانسان، كان قومياً عربياً حتى النخاع واندفع لتأسيس حركة القومين العرب في أوائل الخمسينات من القرن الماضي واستقطب خيرة الشباب القومي العربي المثقف من كافة الاقطار العربية . فأنطلقت نواتها من لبنان وسوريا والاردن مروراَ بغالبية دول الخليج العربي وخاصة اليمن، الكويت، البحرين وحتى عُمان ومصر والسودان وانتهاء بالمغرب العربي. لتخرج القضية من إطارها الفلسطيني الضيق الى فضاء ارحب ولتصبح فلسطين قضية العرب الاولى وإسترجاعها مهمة العرب جميعا. إن الزلزال الذي احدثته نكبة العام 48 ما زلنا نعاني لغاية اليوم من الهزات الارتدادية لتلك النكبة اللعينة التي مر بها الشعب الفلسطيني والعربي . ستبقى هذه القضية وصمة عار في جبين المجتمع الدولي. آمنا بالكفاح المسلح والعنف الثوري كحل وحيد للرد على العدوان الاسرائيلي والانتهاكات اليومية التي يتعرض لها شعبنا وأرضنا . وكانت اللاءات الثلاث شعارنا الوحيد في مرحلة النضال الوطني التحرري 'لا صلح لا تفاوض ولا أعتراف' بالعدو الصهيوني ولا مساس بالثوابت الوطنية مهما غلت التضحيات. كانت مرحلة صعبة وقاسية تحتاج الى الكثير من التضحيات الجسيمة تبدأ بأنكار الذات وبكل ما هو شخصي بعيداً عن التمسك بالإمتيازات والمكتسبات والحياة الروتينة التي يعيشها السواد الاعظم من الناس وتنتهي هذه التضحيات إما بالاختفاء والعمل السري تحت الارض والتعرض للملاحقة الامنية من قبل القوى المعادية في ظروف قاسية تنعكس على حياته وعلى أسرته وتمس الاساسيات في حياتهم الخاصة، وإما أن يقبع في غياهب سجون الأنظمة العربية بكل ما تعرف به من وحشية وقسوة وإنتهاكات لأبسط حقوق الانسان حيث كان الداخل مفقود والخارج مولود .كانت تلك مرحلة من النقاء الثوري لن تتكرر. عندما إرتبط أسمي بالحيكم واخترت العيش معه بكل تلاوين المشهد السياسي في تلك المرحلة من عمرنا كنت أدرك أني لم أرتبط برجل أعمال ثري من أصحاب النفوذ والسلطة والمال . بل أرتبطت بالطبيب الانسان الثائر ذات المبادىء والقيم المثالية . عاش من أجل شعبه وقضيته العادلة التي وهبها عمره وعصارة فكره وكرس حياته ليرفع الظلم والاضطهاد عنه . إخترت أن أكون على قدر هذه المسؤولية رفيقة درب للحكيم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ليقع على عاتقي الكثير من المهمات الشاقة ومواجهة الكثير من التحديات لأكون على مستوى الرجل وعلى مستوى تضحيات جماهيرنا ومصدر ثقة الحكيم وفخره واعتزازه. هذه قيمة معنوية تغنيني عن كل ما افتقدناه من ملذات الحياة ورغد العيش، قيمة تعوضني العمر الذي التهمته التجارب والاحداث المريرة التي عشناها معاً بكل عقدها وصعابها. كان الحكيم نموذجاً نادراً من القادة الكبار الذين يطبقون الديمقراطية قولاً وفعلاً لتصبح نهجاً في حياته اليومية وتعامله مع كل من حوله بكل تواضع بعيداً عن التعالي واستغلال المناصب . عمل جاهداًعلى تطبيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص داخل صفوف الجبهة الشعبية وعاش بين الرفاق ليتقاسم معهم لقمة العيش وقت الازمات وقلبه الكبير كان يتسع للجميع بكل تناقضاتهم، كان يتميزدائما بوضوح الرؤية والنظرة الثاقبة القادرة على إستشراف المستقبل. كي يعيش المرء الى جانب هذا الانسان الكبير عليه أن يعلن حالة الطوارىء والاستنفار الدائم ويُبقي اليد على الزناد تحسباً لأي طارىء، وأن يعيش واطفاله حالة من اليقظة وعدم الاستقرار والتنقل الدائم وتغيير أماكن الاقامة باستمرار واستعمال جوازات سفربجنسيات متعددة وأسماء مستعارة حتى يكاد المرء أن ينسى أسمه الحقيقي كل ذلك تحسبا من أية ملاحقات أمنية محتملة ومحاولات إختطاف أو إغتيال ليصبح خبيراً أمنياً بأمتياز. كنت دائماً أ معه والى جانبه في قلب الاحداث الساخنة والمصيرية حتى أتمكن من الاشراف المباشر على أمنه وسلامته. أما اليوم وفي هذه الظروف العصيبة تعيش الشعوب العربية مخاضاً عسيراً في صراعها مع الظلم والطغيان والاستبداد والفساد. شعوب تتوق الى الحرية والديمقراطية والكرامة الانسانية وتحقيق العدالة والمساواة والتعددية السياسية، مطالب محقة بدأت بمظاهرات سلمية جوبهت بحملة شرسة من القمع والقتل والتدمير. وجد الشعب السوري نفسه أمام ترسانة من الاسلحة الفتاكة وسط آتون من النار كان يعتقد أنها معدة لتدمير الكيان الصهيوني واذ بها تنهمر حمماً فوق المنازل الآمنة تجرف الحجر والبشر دون تمييز بين مدني وعسكري وبين أطفال ونساء وثوار. دماء غزيرة سالت كالشلال الهادر وجرفت شبابا بعمر الورود كانوا يحلمون بمستقبل مشرق وبوطن ينعم فيه المواطن بكامل حقوقه المدنية والسياسية وبالعيش الكريم . تطورات دراماتيكية تفوق قدرتنا على الخيال. إن ما يجري في سوريا اليوم لا يمكن تقبله أو تبريره ولا تحت أي ظرف. أتساءل بمرارة لماذا وصلت الامور الى حد الانفجار دون واعز ولا رادع ؟ لماذا سوريا بالذات ؟ كنا نعتقد أنها قلعة حصينة لا يمكن إختراقها. لماذا لم يتم العمل منذ البداية على احتواءالازمة وإستيعاب المطالب الشعبية قبل الانزلاق نحو الهاوية. ألف لماذا ومن المسؤول عن هول المأساة وأي ضمير هذا الذي يستطيع أن يتحمل ثقل هذه الاحداث والجرائم التي ترتكب بحق الشعب السوري وبحق الابرياء وبحق سوريا الوطن وبحق الفلسطينيين في المخيمات. إن شعب سوريا لم يكن يوما طائفيا ولا مذهبيا ولا مكان في بنيته أو تكوينه للتطرف الديني أو التمييز على أساس طائفي عرقي أو مذهبي بل كانت سوريا دائما مثالأ للتعايش السلمي المشترك بين الطوائف والأديان المختلفة. أنه صراع على المصالح بين قوى دولية وإقليمية وصراع على النفوذ في المنطقة العربية على حساب أرواح الالاف من الناس وعلى أنقاض البلد وتبديد ثرواتها وتفتيتها وتشريد شعبها. أعتقد أن الموضوع خرج عن سيطرة الجميع وفُتحت أبواب جهنم على مصراعيها لتلتهم الاخضر واليابس أنها معركة إستنزاف ليس فيها غالب ولا مغلوب ولا منتصر والخسارة تطال الجميع. أكثر من ستين ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين وأكثر من ثلاثة ملايين مشرد معظمهم يعانون القهر والبرد والجوع والمهانة داخل سوريا وخارجها في دول الجوار. إن مياه الفياضانات والثلوج التي عصفت بخيامهم وأغرقت النساء والاطفال وطمرتهم بالوحل طمرت معها الضمير الإنساني وقيم المجتمع الدولي الذي يتغنى بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ويقف موقف المتفرج أمام هذه المآسي الإنسانية . إن الشعب السوري العظيم يستحق منا كل الدعم المادي والمعنوي والتضامن والعمل الجاد على إنقاذ الابرياء نحتضنهم بدفىء القلوب تماماً كما هو إحتضن الشعب الفلسطيني بعد نكبة 48 ،وحمى المقاومة الفلسطينة وقياداتها كما أحتضن أكثر من مليون ونصف من الشعب العراقي الذين شردتهم الحرب المدمرة التي خاضتها اميركا وقوى التحالف على العراق وانتهت باحتلاله وتدميره. ثورات عربية شعبية اندلعت في مصر وتونس واليمن وليبيا لم تكتمل بعد ويتم محاولة الالتفاف عليها بشتى الطرق ومحاولة إجهاضها من قوى عديدة لها مصلحة في بقاء العالم العربي فيى حالة تخبط وصراع دائم يئن تحت الفقر والجهل والتخلف حتى لا يتمكن من تحقيق اهدافه الوطنية في التغيير والاصلاح والديمقراطية والنهوض القومي وبناء مجتمع يقوم على العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بين المواطنين. لكن إرادة الشعب ستنتصر في النهاية. أما فلسطين جوهر القضية وقلب الصراع العربي الاسرائيلي ما زال جرحها ينزف، جدار عازل أراض تصادر وبيوت تدمر وشعب يُقتل ويُذل على الحواجز الاسرائيلية ،مواجهات يومية يدفع شعبنا ثمنها من دمه.معاناة لا مثيل لها لكنه يقاوم الجبروت الصهيوني بالعصي والحجارة والارادة الصلبة. أحيّي الشباب والشابات الذين بادروا في إقامة قرية باب الشمس وأبدعوا في إبتكار أساليب جديدة وخلاّقة في النضال وتعرضوا للقمع والإعتقال في سبيل التصدي للإستيطان ومصادرة الأرض كما أحييّ أبطالنا الأسرى الذين يخوضون معركة الامعاء الخاوية ببسالة أسطورية وعلى رأسهم الأسير البطل سامر العيساوي ليثبتوا للعدو أن الضحية أقوى من الجلاد. كل ذلك دون أن توفر لهم القيادة الفلسطينية أية حصانة أو حماية لكنها تبقى حريصة على الالتزام بالاتفاقيات الامنية المُذلة التي وقعتها في اوسلو مع الكيان الصهيوني قبل عشرين عاماً والتي تنص بعض بنودها على حماية أمن أسرائيل ضاربة عرض الحائط بكل الثوابت الوطنية التي دفع شعبنا الآف الشهداء في سبيل تحقيقها وخاصة حق العودة لملايين الفلسطينين الذين مازالوا يعيشون في المنافي والشتات، حقهم في العودة الى صفد بلد القائد د. وديع حداد. والى اللد مسقط رأس الحكيم والي حيفا ويافا والقدس والى كل مدينة وقرية فلسطينية ولد فيها احرار فلسطين. أما الدولة لقد أصبحت في مهب الريح، دولة في الاجواء لن تبقي إسرائيل مكاناً لها على الارض. وفي ظل هذا الوضع المتردي سيكون هناك انتفاضة ثالثة يقوم بها الاحرار دون إستئذان كما بدأت الانتفاضة الأولى عام 87، بدأت عفوية وفاجأت العالم بقوة إرادة الشعب الفلسطيني الجبار في مواجهة الطاغوت الإسرائيلي. وإستثمرت من قبل القيادة الفلسطينية من أجل مفاوضات عقيمة وعبثية لا تلبي الحد الأدنى من طموحات جماهيرنا. عندما قدم الحكيم استقالته عام 2000 واعلن عدة أسباب للاستقالة كان الوضع السياسي وما اوصلتنا إليه اتفاقيات اوسلو العقيمة أهم الاسباب التي دفعته للاستقالة حتى لا يسجل التاريخ أنه كان شاهد زور على مرحلة يتم فيها تصفية القضية الفلسطينية. ومن ضمن الاسباب الاخرى أيضا إتاحة الفرصة أمام الجيل الشاب ليقود عملية التغيير والتجديد وضخ دماء جديدة داخل التنظيم ليواكب تطلعات وطموحات شعبنا ويكون المحرك الاساسي لهذا التجديد، والان وبعد مضي اثنا عشر عاماً على الاستقالة مازال القديم على قدمه. كلٌ يتشبث بموقعه واصبحت المناصب مجردة من أي مضمون ثوري في حالة من الترهل والجمود. وهذا ينطبق مع الاسف الشديد على جميع الفصائل والقيادات الفلسطينية. تحية إجلال وكبار الى ارواح الشهداء الابرار والى روح الحكيم في الذكرى الخامسة لرحيله. أحيي أبطال المقاومة الفلسطينية الذين تصدوا للعدوان الاسرائيلي على غزة واحدثوا لأول مرة نوعاً من التوازن مع العدو ورفعوا رؤوسنا عاليا، لهم منا كل المحبة والتقدير، الرحمة للشهداء الأبرار والشفاء لجميع الجرحى الابطال.