لم تتردد الجزائر في الحسم. كان توقيت اختطاف الرهائن الأجانب والجزائريين مفروضا عليه. ثم حولته إلى اختيار لتوجيه رسائل عدة، في مقدمها أنها لن تسمح بامتداد الحرب الدائرة في مالي داخل أراضيها، وأن وجود ديبلوماسيين جزائريين رهائن لدى تنظيمات مسلحة في مالي، لن يثنيها عن استخدام القوة، مثل أي دولة تشعر بانتسابها إلى نادي الكبار في الحرب على الإرهاب. ساعدها في ذلك أن الجزائر خلال الفترة الطويلة للصراع الدامي على السلطة، بين تنظيمات إسلامية متطرفة ومؤسسات الجيش والدرك لم يكن موقفها يقابل بالتفهم الذي كانت تبتغيه، قبل أن تتحول الحرب على الإرهاب عابر القارات إلى ظاهرة كونية، ألغت الحدود وتمايز الأنظمة. وها هي تلتقط الأنفاس لتؤكد أن ما فعلته كان خيارا لا بديل منه. أقله أن الإرهابيين الذين تورطوا في خطف الرهائن مسؤولون بالدرجة الأولى على كل ما حدث. حاولت الجزائر أن تنأى بنفسها وتضع مسافة تتسع أو تضيق إزاء التدخل العسكري الفرنسي في مالي. لكنها بدل ذلك اضطرت إلى خوض جانب من المعركة نيابة عن باريس، كونها همت تطهير أراضيها من أن تتحول إلى ملاذات للإرهابيين، وأقرت خطوطا حمراء إزاء الاقتراب إلى منشآت النفط والغاز. بخاصة وأن مراكز تدفق الشرايين الاقتصادي لبلد المليون شهيد، ظلت بعيدة عن تداعيات الحرب الأهلية. فأحرى أن يطاولها اليوم شظايا أزمة مالي وبلدان الساحل جنوب الصحراء. في ذات الوقت عاودت عقارب الساعة إلى الأوضاع على حدودها الشرقية. وبعد أن كانت موضع اتهام من لدن مناهضي نظام العقيد القذافي، إبان المعارك التي شدت الانتباه إلى موقفها الذي لم يجار كل الأهواء. بدت اليوم أكثر إقناعا في أن الجوار الليبي جلب عليها المتاعب، أقله لجهة تسلل تنظيمات متطرفة إلى أراضيها لتنفيذ أعمال إرهابية مدانة. ما قد يدفع إلى معاودة تقليب صفحات تلك الحدود الشاسعة التي يصعب رقابتها، من دون تنسيق مشترك، وتعاون دولي أكبر. إلى وقت قريب كانت الجزائر تتبنى مقاربة في صيغة الاعتماد على الذات، في مواجهة الانفلات الأمني في منطقة الساحل جنوب الصحراء. فقد استضافت أكثر من لقاء عسكري وديبلوماسي وأمني، للبحث في أفضل السبل الممكنة لتطويق ذلك الانفلات. وحصرت قوائم المشاركين في بلدان المنطقة وليس غيرها. من منطلق أن فرضيات الحوار والحركات التي تنبذ الإرهاب والعنف، تكون أجدى من خوض الحروب. لولا أن التطورات التي قادت إلى اقتطاع أجزاء من مالي ووضعها تحت سيطرة ونفوذ حركات مسلحة، لإقامة كيانات منفصلة عن مالي في الشمال، عصفت بتلك المقاربة. جاءت المبادرة من باريس التي لا تستسيغ تهديد نفوذها التقليدي في إفريقيا. وتلكأت الجزائر، مخافة أن يسحب منها دورها في الجوار الأقرب إلى محيطها. قبل أن تجد نفسها في وارد اتخاذ مبادرة الحسم عبر استخدام القوة. قد لا يعني ذلك بالضرورة أنها تساير التوجه الفرنسي إلى أبعد مدى، لكنها لا تستطيع أن تقف مكتوفة اليد أمام نقل الأزمة إلى داخل أراضيها، أكان ذلك نتيجة سوء تقدير أم بفعل الانقياد وراء ممارسة الضغوط والرغبة في الإفادة من التردد الجزائري. ففي النهاية تمكنت من فرض موقفها، على رغم بعض الانتقادات الخجولة التي قد تعزا إلى اعتبارات داخلية تهم انتساب الرعايا إلى بلدان غربية، تقيم وزنا أكبر لقيمة الإنسان في حد ذاته. عندما كانت الإدارة الأميركية أو نظيرتها الفرنسية يمتزجان الرأي حيال المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الجزائر في التعاطي ومنطقة الساحل جنوب الصحراء، كانت المعطيات على الأرض تحصر الأزمة في ذلك الفضاء المنسي الذي تحدثه حروب ونزعات قبلية وكوارث طبيعية، كان من أبرز نتائجها استشراء الهجرة غير الشرعية وتزايد مخاطر الانفلات الأمني. والظاهر أن الرد الجزائري الذي اتسم ببعض التحفظ، لم يكن يضع في الاعتبار أن لهيب الأزمة سيمتد إلى داخل الجزائر. اليوم تغيرت معطيات عدة، ولعل أبرز تأثير لأزمة الرهائن، أن الجزائر ذاتها التي بدأت تتعافى من سنوات الجراح الطويلة، لا تريد لشبح جرحها في مواجهة التنظيمات الإسلامية المسلحة أن يتخذ من أزمة مالي ذريعة للعودة إلى البلاد. فهي تدرك أكثر من غيرها أن الحرب على الإرهاب، إذ تمارس عبر السلاح، لا بد أن تؤدي إلى انتشار لاجئين وفارين واختباء نشطاء، كما حدث في الحرب على أفغانستان، إذ تحولت باكستان إلى ملاذات جرتها إلى المستنقع الذي رغبت في تجنبه. بهذا المعنى يصبح للحسم الجزائري أكثر من مبرر، فيما يبدو الأمر بالنسبة للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تحديدا، بمثابة مد حبل النجاة، لأن ذلك يمنح قراره بالتدخل العسكري صدقية كان يبحث عنها، وأقربها ألا تأتي فقط من بلدان غرب إفريقيا الشريك المحتمل في التدخل العسكري، كما أقره مجلس الأمن، بل من الجزائر وغيرها من بلدان الجوار، أي دول الشمال الإفريقي. ثمن كهذا، يبطل لغة المشاعر، وإن كان الزمن وحده سيميط اللثام عن أزمة الرهائن التي دفعت في اتجاه معاودة بناء تحالف دولي في مواجهة إرهاب الساحل الذي كان في طريقه لأن يصبح أفغانستان إفريقية جديدة.