مشهد لم يستغرق عرضه على شاشات الأخبار إلا ثوانى معدودات يلخص الوضع حالياً فى مصر، فوق سلالم دار القضاء العالى اصطف المئات من وكلاء النيابة المجتمعين على انتهاك سيادة القضاء وتعيين رئيس السلطة التنفيذية للنائب العام الجديد ضارباً عرض الحائط للأصول التى تقوم عليها الدولة. احتشاد مهيب راحوا يرددون خلاله نشيد بلادى بلادى، النشيد القومى للثورة الوطنية المصرية فى كل العصور، كأن لحظة من ثورة 1919 بعثت جديدة. فجأة ظهرت مجموعات من البلطجية، حاول بعضهم تسلق قضبان السور التى تحيط بالساحة الأمامية لدار القضاء المشيد على الطرازين الفرعونى والرومانى، ملامح بعضها يمكن أن نراها فى القاهرة، تلك النماذج الهائمة والتى يمكن استئجارها لأى غرض، كان هتافهم: الشعب يريد تطهير القضاء، كأنهم هم الشعب. رد وكلاء النيابة بالتصفيق الجماعى، تلك هى مصر الآن بالضبط. الدولة المصرية التى تأسست منذ قرنين من الزمان تدافع عن نفسها فى لحظة تجاوز كابوسية لم تعرفها مصر من قبل فى تاريخها كله، دولة القانون والمساواة والعلم والتقدم والوحدة الوطنية والإيمان الوسطى، دولة الأزهر والمؤسسات فى مواجهة دولة الميليشيات مجهولة المصدر والفوضى والعشوائية، دولة الجزية والأعراف والفرقة والتمييز واحتقار المرأة وأصحاب الديانات المغايرة، بل والمسلمين الذين لم ينخرطوا فى الجماعة. هذا هو صميم الوضع فى مطلع العالم الثالث عشر من الألفية الثالثة، وبعد ثورة عظمى انتفض خلالها الشعب المصرى مستنفراً كل مقوماته الحضارية وأصوله الممعنة فى الإنسانية، إلا أن هذا الشعب المنكوب فى قياداته وظروفه فشل فى الاستمرار فيما بدأه، ومن خلال إحكام التحرك من عصابات منظمة تعمل فى الخفاء منذ ثمانين عاماً استخدمت كل الأساليب من اغتيال النشيطين فى الميدان وفى سائر أنحاء مصر، إلى إفساد العناصر الشابة التى قامت بالتحريض إلى تعميق الشقاق بين الشعب والجيش والاستعانة بامتدادات إقليمية وسياسات دولية مريبة، ومع سوء تقدير بعض من النخبة، وانعدام خبرة واضطراب رؤية المجلس العسكرى، نجح مرشح الجماعة فى الوصول إلى الرئاسة وبدأت عملية هدم الدولة المصرية المستمرة حتى الآن لتأسيس النقيض. كل ما نعيشه الآن من اضطراب وفوضى ليس إلا أعراضاً لهذا المشهد المرعب فى التاريخ المصرى الحديث، دولة تنهار مؤسساتها على أيدى عصابات منظمة، لم يكن الأمر انتخابات تسفر عن فوز حزب يجىء إلى الحكم لمدة أربع سنوات ثم يمضى وفقاً للشكل الديمقراطى الذى أتبعناه دون النظر إلى خصوصية الواقع المصرى الذى استقرت فيه مبادئ نظام ديكتاتورى فاسد لعقود مما يجعل تأسيس النظام الجديد المستبد الأكثر ديكتاتورية سهلاً ونلاحظ استمرار جميع المشاهد الرئيسية فى الحكم، الطائرة الرئاسية، الحرس الذى تزايدت كثافته.. فخامة القصور، لم يتغير شىء، بل إن تعطش أفراد الجماعة القادمين من أعماق العتمة إلى الظهور والتمكن يبدو أشد وأنكى مما كان قبل ذلك، بمجرد صعود مرشح الإخوان إلى الرئاسة نتيجة ظروف لا تزال غامضة، بدأ على الفور تطويع الدولة المصرية لمبادئ الجماعة التى لا تزال غامضة والأصول التى تنتهى إليها غريبة حتى على أصول الدعوة التى أسسها رائدها حسن البنا، فى الديمقراطية التى لم نأخذ منها إلا الشكل، لا يعنى وصول حزب ما أو رئيس جماعة ما إلى الحكم تدمير مؤسسات الدولة، الرئيس أوباما لا يمكنه إجراء تغييرات جذرية فى المحكمة العليا الأمريكية، أو المخابرات المركزية، تبقى المؤسسات وتتغير السياسات والقيادات. تغيير السياسات لا يعنى تدمير مؤسسات الدولة، حتى بعد ثورة يوليو 1952 تم استمرار المؤسسات مع تعديل مسارها، الداخلية لم تدمر ولم تشوه، لكن تم تنحية القيادات شديدة الارتباط بالقصر، مثل اللواء إبراهيم إمام، رئيس البوليس السياسى، وتم تحديث الأجهزة القائمة وتأسيس المخابرات العامة تحت قيادة جديدة «زكريا محيى الدين»، بل إن الشخصيات ذات الكفاءة استمرت فى مواقعها مثل على باشا ماهر، وعبدالرزاق السنهورى، وكبار الصحفيين وغيرهم من القيادات الخفية والظاهرة، يجب أن تعود الجماعة كما بدأت مجرد جماعة للدعوة كما أراد مؤسسها، أما أن تمارس الحكم فها نحن نرى النتيجة، إن التجاوزات التى جرت خلال الشهور الست الماضية بدءاً من هدم الإعلام والقضاء والتحرش بالمؤسسات الأمنية الكبرى وما يعد للجيش، أمور تتجاوز بكثير مهام أى رئاسة منتخبة لذلك يجب على القوى المدنية الوطنية وضع استراتيجية لمقاومة هذه الإجراءات وإسقاط الدستور الذى وصل إقراره عبر خطوات من اللامعقول الإجرائى والسياسى. ويقتضى هذا وجود قيادات شابة أثق بأن الواقع قادر على فرزها، وبرنامج سياسى يضع فى اعتباره العمل السلمى، وقد أثبتت تجربة المصريين إمكانية هزيمة الغزاة بالكفاح الوطنى السلمى. يجب أن توجد قوة موازية للإخوان والسلفيين من الشعب، إنها موجودة بالفعل ولكن غير منظمة، لقد رأيت التسجيل الخطير الذى تحدث فيه الشيخ برهامى. راعنى فيه أسلوبه وليس ما يشرحه من خطط هدم الأزهر وإقصاء شيخه والحديث عن «النصارى»، المرعب لهجته التى تشبه رئيس عصابة سرية، «لو أعلنا ذلك سيهيج الناس علينا...»، كيف لزعيم حزب يستلهم الإسلام أو يتحدث به يتكلم عن إرجاء الأهداف. واللف والدوران فى وضع الدستور، وتوجيه الشكر إلى الدكتور العوا الذى وجد اللفظ المناسب لتمرير المطلوب «فتح الله عليه»، هنا أشير إلى ظاهرة أرصدها عبر الشهور الأخيرة نتيجة السياسات التى بدأ ظهورها، أعنى ظاهرة التنفير من الإسلام، محصلة هذه السياسات تصب فى تشويه صورة الدين الحنيف، لهذا حديث مفصل سأعود إليه. من نتائج انتفاضة يناير تلك المظاهرات التى قادها بعض المراهقين المنتسبين إلى الثورة، ورفعت خلالها الشعار الخطير الخاطئ «يسقط حكم العسكر...» إلى جانب التجاوزات التى جرت فى حق الضباط والجنود الذين التزموا بعدم الرد على السباب المنظم والإهانات، من ناحية أخرى أخطأ الجيش عندما أخفى قادته عدد شهدائه خاصة فى مذابح نسبت إلى قواته مثل ماسبيرو، خلال أحداث ماسبيرو كانت توجد عصابات فى قوارب بالنيل ومن فوق كوبرى أكتوبر تطلق النيران على الضباط والجنود والمتظاهرين، واستغلت الصور الملتقطة لجنود يحاولون الهرب بمدرعات ربما لم يتخصصوا فى قيادتها ودهسوا بها البعض. فقط هذا ما ذاع فى العالم مع أن أى مُلم بأساليب قتال الجيش المصرى يعرف أن الدهس ليس من الوسائل التى يعرفها الجيش، وقد شاركت كصحفى فى حربى الاستنزاف وأكتوبر، ولم أعرف شيئاً كهذا، لقد تعرض الجيش لحملة تشويه منظمة من الإخوان ومن جانب بعض الشباب المنتمين إلى الثورة. لقد كتبت أكثر من مرة محذراً من عودة الجيش إلى ثكناته مهاناً، أما وقد حدث فيجب على القوى الوطنية أن تجد وسيلة لرأب الصدع، إننى لست من المؤمنين بالانقلابات العسكرية، ولكن وقوف الجيش على الحياد أمر لا أقتنع به، لقد كان الجيش من القوى الوطنية منذ تأسيس محمد على لطوره الحديث. ومن ناحية أخرى لا أثق أن الجماعة تلتزم الصمت أو عدم الحركة باتجاهه. بل إن ظهور عضو مهم بالحرية والعدالة بعد يناير فى مجلس الشعب، كان مسؤولا عن أكثر المواضع حساسية بالمخابرات الحربية أمر يثير القلق الحقيقى. هناك وسائل كثيرة للاختراق، وإننى من المؤمنين بالجيش كقوة وطنية لهذا يؤرقنى هذا الحياد فى وقت تتداعى فيه مؤسسات الدولة وينتفى الأمن الداخلى عند أى إنسان نتيجة سيادة الميليشيات التى تعمل بتنسيق مع الجماعة، باختصار ليس أمام القوى الوطنية إلا العمل فى اتجاه واحد تؤدى إليه عشرات الطرق ألا وهو تحرير مصر من الاحتلال الداخلى الإخوانى، وإلا فالفوضى قادمة وستنهى كل شىء، وقد تمضى عشرات العقود قبل بدء تجاوزها. بعد تمكن الجماعة من الرئاسة عبر مرشحها بدأت على الفور تنفيذ سياساتها والمتمثلة بإنهاء وجود الدولة المركزية المصرية المستقلة وإحلال دولة العشيرة والجماعة واللاقانون التى بدأت تزحف على تفاصيل حياتنا، ولعل مشهد حصار المحكمة الدستورية بالغوغاء، ومدينة الإنتاج الإعلامى، ودار القضاء العالى، ثم محاولة اغتيال رئيس نادى القضاة أحمد الزند على مشهد من الشرطة، كل هذه المشاهد إذا وضعت إلى جوار بعضها سنرى الهدم السريع لأصول الدولة والتجاوز الذى لم يجرؤ عليه حتى أقسى المحتلين لمصر عبر عصورها. ولذلك أقول من الناحية الموضوعية إننا دولة محتلة. مصر الآن تعيش تحت أصعب غزو عرفته فى تاريخها، ولذلك أسباب عديدة، أولها أن الغزاة الجدد مصريون جاءوا من الداخل، يحملون هويات مصرية، وولدوا بمصر، عاشوا فى هذا الحيز الجغرافى الذى لا يؤمنون به كوطن، ولذلك هم فى وضعية الأجانب، مصر بالنسبة لهم ولاية لاتزال فى مرحلة التكوين فى دولة الخلافة المتوهمة، إن السياسات التى تبدو ملامحها الآن لا تخدم الوطن المصرى. بقدر ما تخدم كيانات أخرى غريبة حتى لو كانت من الدول العربية المفترض أنها شقيقة. ومما يقوى من موقف هذا الاحتلال ضعف قيادة القوى المدنية. المدافعة عن أصول الدول المصرية. وفشل معظمها وعجزها عن قيادة الطاقة الثورية المترتبة على انتفاضة يناير 2011، وهذا ما أعتبره التغير الإيجابى الوحيد لتلك الانتفاضة، سقوط حاجز الخوف، وإمكانية تحرك المصريين فى انتفاضات مفاجئة. وبدا ذلك واضحاً فى مسيرة الثلاثاء التى دعت إليها القوى الوطنية فى اتجاه القصر الرئاسى وخلالها ظهر عامل إيجابى آخر وهو المرأة المصرية التى تتجاوز دورها كمدافعة عن حقوقها إلى مدافع عن الوطن كله، وخلال الوقفات التى حضرتها مؤخراً كان من الممكن رصد هذه الظاهرة الجديدة. إن عوامل مقاومة الكيان الذى يراد فرضه على مصر باسم الدين متوفرة وموجودة فى الواقع المصرى، من هنا أرى الممكن والمحتمل المقاومة ونحن على أبواب عام جديد يجىء ومصر فى انحدار لم تعرفه من قبل. إن انهيار الدولة والمؤسسات الذى تمارسه جماعة الإخوان الآن سوف ينقض على رؤوس الجميع بمن فيهم الجماعة، فالدولة المصرية بمؤسساتها العريقة حافظة للكيان المتجاوز لأى فصيل أو جماعة، لذلك يبدو شبح الفوضى قريباً ويبدو الوضع أقرب إلى ما جرى بعد انهيار الدولة المركزية عقب الأسرة السادسة «بناة الأهرام»، وعقب الغزو العثمانى فى القرن السادس عشر. بل إننى لأرى سليم الأول- رغم كل ما أتاه- أكثر رحمة وفهماً لمصر من الحكام الحاليين.