ماذا تفعل لو كنت ضابطا في أمن الدولة وما زلت في منصبك حتى الآن؟ لقد قمت بتعذيب مئات المصريين قبل الثورة، وأنت تعلم أن الانتخابات القادمة ستأتي بحكومة مدنية ستقيلك قطعا من منصبك، وقد تحيلك الى المحاكمة. هل تحافظ على الأمن أم أنك سوف تفعل كل ما تستطيعه حتى تشيع الفوضى في مصر لتنجو بنفسك؟ اذا كنت رئيسا لبنك، عينك جمال مبارك في منصبك، ماذا تفعل بعد الثورة؟ هل تساعد على نهضة الاقتصاد حتى تأتي حكومة جديدة تقيلك وتحاسبك، أم أنك ستستعمل خبرتك في احداث أزمة اقتصادية تؤجل مصيرك المحتوم؟ اذا كنت محافظا عينه مبارك أليس من مصلحتك أن تثير فتنة طائفية لتؤجل التغيير الذي سيعصف بك؟ في أعقاب أي ثورة لو ظل أتباع النظام القديم في مناصبهم فلسوف يتآمرون حتما بكل الطرق من أجل تخريب البلد وتعطيل التغيير. في ثورات الدنيا كلها تم هدم النظام القديم بمجرد نجاح الثورة الا في ثورتنا المصرية التي يبدو وضعها فريدا من نوعه.... 20 مليون مصري صنعوا ثورة عظيمة واجهوا خلالها الموت وقدموا الشهداء حتى نجحوا في اجبار حسني مبارك على التنحي، ثم عادوا الى منازلهم وتركوا الثورة أمانة في أيدي المجلس العسكري.. هنا حدث سوء تفاهم حقيقي. الثورة اعتبرت الاطاحة بمبارك خطوة أولى من أجل اسقاط النظام القديم، والمجلس العسكري اعتبر أن تنحي مبارك تضحية لا مفر منها من أجل الحفاظ على النظام القديم. لا بد من أن نفرق هنا بين القوات المسلحة، مؤسستنا الوطنية التي نعتز بها، وبين المجلس العسكري كسلطة سياسية، من حقنا أن نختلف مع سياساتها. لقد رفض المجلس العسكري اطلاق النار على المتظاهرين، وهذا الموقف الرائع يتسق مع تقاليد الجيش المصري العظيمن ولكن في الوقت نفسه فان المجلس العسكري لم يقم بالثورة و لم يتوقعها ولم يفهمها بل انه فوجىء بها تماما كما فوجىء مبارك. لقد كان المجلس العسكري حتى قيام الثورة مخلصا لقائده الأعلى مبارك، ثم انتصرت الثورة المصرية على الطاغية وكان لا بد للمجلس العسكري من أن يتعامل مع الأمر الواقع. أثناء موقعة الجمل دخل آلاف البلطجية المسلحين الى ميدان التحرير بهدف الاعتداء على الثوار وقتلهم. حدث ذلك أمام جنود الجيش، فلم يعترضوا البلطجية ولم يحموا الثوار منهم، وقالوا لمن سألهم ان التعليمات تقضى بأن يقفوا على الحياد. الوقوف على الحياد بين متظاهرين سلميين وبلطجية مأجورين مسلحين، معناه ببساطة اعطاء فرصة أخيرة لنظام مبارك حتى يقضي على الثورة. هناك فيديو يصور اللواء الرويني وهو يتحدث الى الثوار بعد انتصارهم في موقعة الجمل ويطلب اليهم الانصراف، وعندما يخبره أحد الثوار بأنه سيظل معتصما حتى يتنحى مبارك، عندئذ يسخر منه الرويني قائلا: شوف من سيدفع لك مرتبك أول شهر وأنت في الشارع.. لقد احتفظ المجلس العسكري بقائده الأعلى حسني مبارك معززا مكرما في قصره بشرم الشيخ لمدة شهرين كاملين، لكنه لم يستطع مقاومة الضغط الشعبي، فاضطر في النهاية الى احالة مبارك للمحاكمة. كل ما حدث في مصر بعد الثورة يمكن تلخيصه في الصراع بين ارادتين: ارادة الثورة التي تريد تغييرا حقيقيا يستحيل تحقيقه بدون هدم النظام القديم، مقابل ارادة المجلس العسكري الذي يتشبث بالنظام القديم ويقاوم التغيير باستماتة. المسؤولون وأصحاب القرار في الدولة الآن، هم أنفسهم الذين قامت الثورة من أجل الاطاحة بهم، وكأننا نطلب من النظام القديم أن يساعدنا في اسقاط نفسه بنفسه. ضباط أمن الدولة وقيادات الشرطة والمحافظون ومعظم الوزراء وكبار المسؤولين في البنوك والوزارات والاعلام، كل هؤلاء ينتمون قلبا وقالبا الى نظام مبارك، وهم بالقطع معادون للثورة، لكن المجلس العسكري احتفظ بهم جميعها في مناصبهم. النتيجة سلسلة من المؤامرات التي أدت الى أزمات كلها مصطنعة بدءا من الاعتداءات الطائفية وحتى أزمة البنزين والمواد الغذائية. النتيجة تعطيل التغيير الديموقراطي ودفع الثورة الى عكس اتجاهها ومحاولة احتوائها واجهاضها. أرادت الثورة دستورا جديدا لكن المجلس العسكري استجاب الى مستشاري مبارك القانونيين، وفرض علينا استفتاءا على تعديلات دستورية محدودة ثم فاجأنا بعد ذلك وأعلن دستورا مؤقتا يلغي عمليا نتيجة الاستفتاء، ويحدد شكل الدولة المصرية وفقا لارادة المجلس وليس ارادة الشعب. منذ أيام نشرت جريدة التحرير وثيقة تؤكد أن هناك 165 ألف بلطجي لا زالوا حتى اليوم يعملون لحساب مباحث أمن الدولة. ماذا نتوقع من هؤلاء البلطجية؟ انهم يعملون بلا شك على نشر الفوضى ويحافظون على الانفلات الأمني حتى يكره المصريون الثورة ويندموا على مطالبتهم بالحرية. قبل ذلك نشر الاستاذ عمر طاهر في جريدة التحرير أيضا، خطابا أرسلته شركة مصر للطيران الى المسؤولين عن السياحة في اليابان تطلب فيه عدم ارسال سياح يابانيين الى مصر، لأن الحالة الأمنية لا تسمح. هذه مجرد أمثلة على عمليات التخريب المنظم التي يقوم بها أتباع مبارك في كل مكان في مصر. أخيرا جاءت مذبحة ماسبيرو كذروة لأحداث الفتنة الطائفية التي اندلعت في مصر بطريقة منظمة ومتعمدة بعد الثورة. لا يمكن أن نفهم ما حدث في مذبحة ماسبيرو بدون أن نعي حقيقة أن نظام مبارك لازال يحكم مصر. محافظ أسوان تعمد أن يثير الفتنة الطائفية، والمجلس العسكري رفض اقالته، كما أوصت اللجنة التي شكلها رئيس الوزراء. الشرطة العسكرية تعمل بتعاون كامل مع جهاز الشرطة الذي لازالت قياداته موالية لمبارك، وجهاز أمن الدولة (الأمن الوطني) الذي يعمل بنفس الضباط الذين أهدروا كرامة المصريين وعذبوهم على مدى سنوات. مسيرة سلمية معروف سلفا مكانها وموعدها، اشترك فيها آلاف الأقباط، وكثير من المسلمين المتضامنين مع مطالبهم المشروعة. فجأة تظهر مجموعات مسلحة مجهولة كتلك التي ظهرت في الاعتداءات السابقة كلها. السيناريو نفسه يتكرر بحذافيره. المسلحون يعتدون على المنشآت، ثم يهاجمون الجيش مما يعطيه السبب الكافي للتنكيل بالمتظاهرين، الذي هو الغرض الحقيقي من هذه المسرحية البائسة.. في كل الحوادث السابقة بدون استثناء بدءا من احراق كنيسة صول وحتى أحداث العباسية والاعتداءات على وزارة الداخلية ومديرية أمن الجيزه ظهر هؤلاء البلطجية وتم تصويرهم في فيديوهات كثيرة، بل ان بعضهم اعترف لوسائل الاعلام بأنه قبض أموالا من أعضاء الحزب الوطني ليرتكب جرائمه؟ لماذا لم تقبض الشرطة العسكرية عليهم وتحقق معهم؟ لماذا تركت الشرطة العسكرية المتطرفين في قنا يقطعون أذن رجل قبطي ويعطلون خط قطار الصعيد لمدة عشرة أيام؟ لماذا يعتدي البلطجية من أبناء مبارك بالآلات الحادة على أهالي الشهداء فلا تقبض عليهم الشرطة العسكرية بينما تنكل فقط بالثوار وتعذبهم وتقتلهم؟ السؤال المحوري في مأساة ماسبيرو: هل تم دهس المواطنين المصريين تحت عجلات المدرعات؟ الاجابة نعم للأسف. لقد تم توثيق الجريمة البشعة بالفيديو ومعظم الجثث وجدت في المشرحة ممزقة من أثر الدهس بالمدرعات... في يوم قريب، سينقشع الغبار وتنتهي حملات التشويش والتحريض والأكاذيب التي يقودها الاعلام الرسمي، وعندئذ سوف يجد المصريون أنفسهم وجها لوجه أمام مذبحة بشعة ارتكبها أفراد الجيش المصري ضد مواطنين مصريين . في عام 1906 ذهب خمسة ضباط من جيش الاحتلال البريطاني في رحلة لصيد الحمام في الريف المصري، ونتيجة لسلسلة من الأخطاء، نشبت معركة بين الضباط الانكليز والفلاحين المصريين أدت الى مقتل فلاح مصري ووفاة ضابط بريطاني من أثر ضربة شمس أصابته وهو يهرب .عقد اللورد كرومر المعتمد البريطاني محاكمة صورية حكمت باعدام أربعة فلاحين مصريين وحبس عدد آخر منهم لمدد متفاوتة. اشتهرت هذه الواقعة باسم مذبحة دنشواي ولقد هبت مصر كلها حزنا على شهداء دنشواي، بدءا من المصريين العاديين وحتى الزعيم مصطفى كامل وكبار الشعراء، مثل حافظ ابراهيم وأحمد شوقي، اللذين نظما قصائد رائعة تأثرا بمأساة دنشواي. وفي بريطانيا اعترض كثير من الساسة والمثقفين على مذبحة دنشواي حتى أن الكاتب الانكليزي الكبير جورج برنارد شو (1856 1950) كتب ما معناه: «اذا كانت مجزرة دنشواي تمثل النموذج الاخلاقي للامبراطورية البريطانية فواجبنا الأهم أن أن نهزم هذه الامبراطورية ونسقطها فورا..».. وقد أجبرت هذه الاحتجاجات العنيفة الحكومة البريطانية على اقالة اللورد كرومر والغاء العقوبة على الفلاحين المحبوسين واطلاق سراحهم.. حتى الآن يتم تدريس مذبحة دنشواي لأطفالنا في المدارس المصرية باعتبارها دليلا قاطعا على وحشية الاحتلال البريطاني. ثمة مقارنة محزنة هنا لكنها ضرورية: في مذبحة دنشواي سقط خمسة شهداء بينما في مذبحة ماسبيرو سقط 24 شهيدا كما أن المجلس العسكري لم يعتذر عن قتل الشهداء، ولم يحل فردا واحد من العسكريين الى المحاكمة، لكنه قرر أن تتم التحقيقات في القضاء العسكري ما يجعل المجلس العسكري الخصم والحكم في الوقت نفسه.. فرق آخر كبير بين دنشواي وماسبيرو.. ان الجنود البريطانيين قتلوا المصريين باعتبارهم سكان مستعمرة بريطانية أما أفراد الشرطة العسكرية فقد قتلوا مواطنين مصريين مثلهم. المواطن المصري يدفع ضرائب لتشتري بها القوات المسلحة مدرعات يفترض أنها تحمى الوطن فاذا بها تدهس المواطنين الذين دفعوا ثمنها وتقتلهم. ان مذبحة ماسبيرو تتوج مجموعة الجرائم البشعة التي ارتكبها أفراد الشرطة العسكرية ضد المصريين بدءا من تجريد المتظاهرات من ثيابهن وتصويرهن عرايا وهتك أعراضهن، بدعوى الكشف على عذريتهن وصولا الى تعذيب المتظاهرين وصعقهم بالكهرباء واهدار آدميتهم. كل هذه الجرائم موثقة وكلها أجريت فيها تحقيقات بواسطة القضاء العسكري لم نعرف نتائجها ولن نعرفها أبدا. ان مجزرة ماسبيرو البشعة تضعنا وجها لوجه أمام الحقيقة. ان نظام مبارك لازال يحكم مصر وهو يسعى الى احراقها وتخريبها حتى يجهض الثورة ويمنع التغيير.. ان المجلس العسكري يجتاز الآن اختبارا حقيقياً لمصداقيته وعليه أن يختار: اما أن يحمى المجرمين الذين دهسوا الشهداء في ماسبيرو فيصبح في حكم المتستر عليهم واما أن يمتثل للحق والتقاليد العسكرية المصرية فيحيل المجزرة الى لجنة قضائية محايدة حتى يتحقق العدل ويلقى المجرمون جزاءهم.. الثورة المصرية الآن تقف وحدها تماما بعد أن تخلى عنها الجميع وتآمروا من أجل اجهاضها لكن الثورة، بفضل الله والشعب الذي صنعها، ستنتصر وتعبر بمصر الى المستقبل الذي تستحقه.. الديموقراطية هي الحل