لم يكذّب الإسلاميون خبراً عن سعيهم للانفراد بالسلطة واستخدامها أداة لنظام شمولي يشبه التجارب الفاشية. أصدر الرئيس المصري «الإخواني» قرارات دستورية تضع في قبضته سلطات مطلقة تصادر كل المؤسسات، وتلغي المسار الديموقراطي، وتعلن «نظام طوارئ» بذريعة «مواجهة كل تهديد يستهدف الثورة ومنجزاتها». باشر الرئيس محمد مرسي وضع يده على القوات المسلحة وأجهزة الأمن، ثم وضع نفسه بديلاً من المرجعية الدستورية المؤقتة للثورة، وألغى استقلال السلطة القضائية، وحصر في شخصه تكوين الهيئة الدستورية والحق في تقرير صحة وشرعية الانتخابات وما ينبثق عنها ومنع الطعن عليها. هذا الانقلاب «الإخواني» على التحول الديموقراطي في مصر سبقته مناورات أدت إلى السيطرة على الهيئة التأسيسية الدستورية التي انفض عقدها بانسحاب جميع الأطراف غير الإسلاموية، كما سبقته إجراءات فك الشراكة مع مكونات وتيارات الثورة المصرية المختلفة. ولم يكن مضمون هذه الإجراءات بعيداً عن تجديد التحالف المصري الأميركي من أبواب عدّة. بدأت بتثبيت النهج الاقتصادي السابق والاحتفاظ بمنظومة الولاء لصندوق النقد الدولي وتوجيهاته، والتذرّع بالمعونات المالية الأميركية، واستدرار الدعم الخليجي. ومن خلال حركة سياسية التزمت اتفاقات كامب ديفيد والتطبيع الرسمي مع إسرائيل، ولم تنتهِ بلعب دور إقليمي اتخذ لنفسه مرونة لفظية دون أن يمس جوهر الموقف المصري من النزاعات الإقليمية ومن قضية فلسطين. غيّرت الأفعى جلدها وأعطى الإسلاميون شرعية جديدة لأوضاع فقدت شرعيتها مع النخب السياسية السابقة. لكنهم لم يكتفوا بذلك، بل يسعون إلى تحصين سلطتهم في بعد عقائدي إسلاموي يستثمر عواطف الجمهور المتديّن ويصادر حرياته، ويحاصر قوى التغيير الديموقراطي، ويحوّر المطالب الاجتماعية، ويحوّل الصراع السياسي إلى نزاع عقائدي، كما يحصل في موضوع الدستور وهوية الدولة ومرجعية السيادة دينية أم شعبية. كان الحذر من الإسلاميين أكبر بكثير من الاطمئنان لهم. لكن ذلك لم يمنع ولا يمنع أنهم كانوا طرفاً مهماً في التغيير، وشريكاً أساسياً في المعارضة، وأصحاب حق في المنافسة الديموقراطية، ويمثلون واقعاً شعبياً لا يمكن تجاهله أو إنكار دوره ومطالبه. ولم يكن في مقدور أحد أن يتجاوز هذا الواقع أو يستثنيه أو يخرجه من دائرة الفعل السياسي وليس مقدوراً ولا مطلوباً لمستقبل مصر أو أي بلد عربي آخر. إلا أن هذا الإقرار بواقع الأمر وبتحديات تجيير الثورة وتغيير مسارها لا يعني التسليم بإعادة إنتاج أنظمة استبدادية بمضامين وأشكال جديدة. ولم تنتهِ مراحل الثورة المصرية ولن تنتهي في وقت قريب وهي تعزز مشروعها وتطوّره. وليس أدل على ذلك من شرعية الميدان الذي لا يزال يواجه كل سعي لمصادرة الثورة وتبديل مسارها. مصر ليست فقط هذه الانتفاضات الشعبية، بل هي كذلك هذا الإرث الثقافي والحضاري والمدني والمؤسسات والنخب التي لم ينجح نظام الاستبداد في إلغائها أو القضاء على حضورها وتأثيرها. فقد كان قضاة مصر في عزّ مرحلة الترويض والتطويع والقمع أمناء على الحرية وحقوق الناس ومدافعين عن المكتسبات التاريخية التقدمية ومقاومين لمحاولات إخضاعهم لإرادة السلطة المستبدة. ولم تمت أحزاب مصر وتياراتها السياسية والثقافية ولم تقطع مع جذورها الوطنية من تجربة الوفد إلى الناصرية ومن الليبرالية إلى اليسارية، فقد استعادت هذه التيارات حضورها لحظة سنحت فرصة الاستفتاء وحصدت هذه القوى شعبية لا تقل عن رصيد الإسلاميين لولا أنها كانت تواجه قوى خطيرة وقادرة من داخل النظام ومن البيئة الإقليمية والدولية. ولطالما اجتمعت هذه القوى المدنية والتقدمية على مواجهة السعي «الإخواني» لاحتكار السلطة واختطافها إلى اتجاه عقائدي شمولي، فإن التغيير في مصر لا يزال مفتوح الآفاق نحو الأفضل. وليس من قبيل إيهام الذات أو المبالغة التذكير بحجم التأثير الخارجي الذي حفز التيارات الإسلامية المختلفة على التعاون وقدم لها الدعم لصد التيار الديموقراطي الوطني وتطويقه. بل ان مشيخة الأزهر بما لها من نفوذ وما لها من مصداقية في التعبير عن المصالح الوطنية العليا تعرّضت إلى الحصار ولم يؤخذ بمضمون وثيقتها القادرة على تجديد التضامن بين المصريين ووضع مبادئ الحكم الصالح والعادل. وهي في أرجح التقديرات ستتعرض من السلطة الحاكمة كما غيرها من المؤسسات الوطنية إلى محاولات الاحتواء والمصادرة. هذه التحديات والمخاطر لم تتحول بعد إلى أمر واقع شرعي أو مستقر في ظل الحراك الشعبي الذي لم يغادر الميادين ولم يتوقف عن ممانعة الإجراءات التسلطية الجديدة. فالحكم «الإخواني» لم ينجح بعد في فرض نهجه على الهيئة التأسيسية الدستورية، ولا أن يعزل سلطة القضاء عن دورها وشرعية هذا الدور، ولا أن يخضع الصحافة والإعلام رغم إجراءاته وتوظيفاته وإثارة المشاعر الشعبية ضد الحريات وتعبيراتها المختلفة في الثقافة والفنون. فالإسلاميون لا يستعدون فقط العلمانيين والقوميين واليساريين والليبراليين، بل هم يستفزون معظم فئات الشعب ويستخفون بوطنية المصريين وتعلقهم بإرثهم الثقافي والحضاري وتمسكهم بإنجازاتهم ومصادر اعتزازهم كما في الدعوة «الطالبانية» التي أطلقها بعض الظلاميين من أجل هدم الأهرامات وسواها من المعالم الحضارية الإنسانية العظيمة. وإذا كان الإسلاميون يظهرون هذا القدر من التعصب والظلامية ويسعون إلى استبعاد مكوّنات إنسانية كبيرة من الشعب المصري سواء أكانت فئات دينية أو ثقافية أو سياسية ويتصرفون بمنطق الإلغاء والإقصاء تجاه الأقباط أو تجاه الجماعات السياسية ويقسمون الشارع ويأخذونه إلى التوترات والمواجهات العنيفة، فهم يهددون سلامة مصر كلها وأمنها واستقرارها وتقدمها، ولن ينجحوا في فرض نظام ذي ملامح فاشية على مجتمع أظهر هذا المستوى المتقدم من الحيوية ومن الاستعداد للمقاومة. فلعلّها موجة جديدة من الحراك الثوري ومرحلة جديدة من الصراع نأمل أن لا يتحول الإسلام السياسي فيها إلى قوة شرذمة للاجتماع السياسي المصري، ولا أن يصير مجرّد ملحق في سياسات غربية لتجديد السيطرة على المنطقة.