"القدس العربي": مصطفى الحمداوي الحديث عن الراحل محمد شكري هو بالضرورة حاجة ملحة تفرض نفسها على الدوام، وبذات القوة أيضا رغم مرور كل هذا الزمن الذي رحل فيه الكاتب الكبير عن دنيانا. إن بعض الكتاب الذين يرسخون أسماءهم، بل أيضا يرسخون طابعهم وهويتهم الأدبية الاستثنائية، يجبرون أي متتبع لملاحقة آثار هذا المبدع، والتقاط أدق وأكثر التفاصيل إثارة حول تاريخ إبداعاتهم وجغرافيتها والهندسة البارعة التي تميزت بها. ونحن هنا إذ نتناول في هذا الموضوع، من جديد، قامة أدبية كانت وظلت وستبقى دائما جد مثيرة للجدل، وجد مثيرة للتساؤلات. فإننا نفعل، لأننا نعلم عمق الظلال الكثيفة التي لا تزال تخفي الكثير من خصوصيات هذا الكاتب وتغلف جزءا كبيرا من حياته وبعض التفاصيل في شخصيته التي لم تنل بعد الكثير من الاهتمام من لدن المتتبعين لإرثه الإبداعي ومسيرته الطافحة بالغرابة في كل شيء، حتى أضحى أدب محمد شكري موسوما بصفة لصيقة به وبأدبه وملازمة لكل إبداع كان يبدعه. وأمر مثل هذا طبعا لا يمكن قراءته على الوجه السلبي، إذ أن ما فعله الرجل لا يعدو كونه عرى سوءات بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ونزع عنها وشاح الطهر المزيف بجرأة نادرة، وفي زمن كان فيه مجرد الحديث عن أمور بعينها تعتبر طابو ويدخل ضمن المحرمات الأدبية والأخلاقية. سأعود بذاكرتي إلى بداية التسعينات حين استضافت جمعية إلماس الثقافية، الحديثة النشأة آنذاك، في مدينة الناظور الأمازيغية شرق شمال المغرب، الكاتب الأمازيغي الذي ينتمي إلى منطقة الريف، المبدع الكبير محمد شكري، الحدث الثقافي كان حدثا استثنائيا بكل المقاييس في مدينة الناظور، وذو أبعاد خاصة جدا، وبدلالات جد متميزة، لعل أهمها أن الكاتب الراحل ينتمي لمنطقة الريف الأمازيغية، يزور المدينة لأول مرة، على الأقل زيارة تكتسي بعدا ثقافيا، منذ أن هاجر مسقط رأسه بني شيكر وهو طفل صغير رفقة أسرته في فترة اتسمت بسنوات الجوع والقحط الشديد الذي ضرب المنطقة. كغيري من المهتمين بالشأن الثقافي في ذلك الزمن، وأنا في مراهقتي الفكرية والعمرية، أخذت مكاني ضمن رواد القاعة التي امتلأت عن آخرها بالجمهور المتعطش للاستماع لهذا الرجل الذي بدا قصيرا ونحيفا قليلا، شعره مرصع بخصلات كثيرة بيضاء رمادية، وبأنف معقوف يوحي بنبوغ وتميز ينفرد بهما عن غيره من الناس. كان الكاتب المبدع صاحب رواية الخبز الحافي الذائعة الصيت، يجلس فوق المنصة فارضا هيبة وقوة شخصية على كل القاعة التي اكتظت عن آخرها بقرائه ومحبي إبداعاته المتميزة وصحفيو المنطقة ونخبها الفكرية والثقافية. بدأ محمد شكري بعد أن قدمه أحد المنشطين للجمهور تقديما يليق به وبمكانته الأدبية على الساحة العربية والدولية، بدأ، حسبما أتذكر، بقراءة فصلين أو ثلاثة فصول من روايته العالمية 'الخبز الحافي' ، طبعا وردت في بداية الرواية بعض الجمل في نسق حواري مكتوبة باللهجة ألأمازيغية الريفية. وبدا جليا نطقه الفصيح لهذه الجمل رغم إقامته الطويلة بطنجة، ورغم عدم احتكاكه أو زيارته لمنطقة الريف منذ ذلك العهد القديم. وإذا حاولنا استقراء دلالات استعماله لتلك المقاطع الحوارية باللهجة الريفية الأمازيغية، يمكننا أن نفهم جذوره العميقة التي ظهرت في الرواية كاعتراف ضمني بالهوية الحقيقية العميقة في نفس الكاتب كشخص. وهنا علينا أن نفصل بين شخص محمد شكري الكاتب وشخص محمد شكري الرجل المواطن العادي. إذا استطعنا أن نفصل بين شخصية الكاتب ككاتب وشخصية الكاتب كانسان في حياته اليومية، سنستطيع فهم الكثير من خلفيات ثقافة وهوية هذا المبدع الذي يظل يثير فينا عدة أسئلة يبدو أنها ستبقى مستمرة ما دامت روايته 'الخبز الحافي' لا تزال تشكل توهجا أدبيا متواصلا رغم مرور كل هاته السنوات بعد كتابتها. لا زلت أذكر أن المجال فسح لمن يرغب في طرح أسئلة على الكاتب الكبير قي ذلك الصباح الجميل، وكان من الطبيعي أن تصب جل الأسئلة في الجانب النظري والنقدي لكتابة محمد شكري، لكن شخصا من الحضور خرج عن القاعدة ليطرح سؤالا مباغتا على كاتبنا الكبير، كان السؤال على الشكل التالي: أنت محمد شكري الكاتب الذي ولد في الريف، هل تعتبر نفسك كاتبا ريفيا أمازيغيا؟ أطبق بعض الصمت على القاعة في انتظار جواب بالنسبة للبعض كان جوابا سيكون حاسما، وربما رسم موقفا أيديولوجيا من الكاتب محمد شكري. لم يتأخر طويلا هذا الأخير في الرد بسرعة بديهته المعهودة وجرأته التي تتجلى في حياته اليومية، كما في كتاباته المختلفة الكثيفة بمضامينها التي تخرق المألوف وتتعداه لتصف أجواء كانت آنذاك من الطابوهات في الكتابة العربية، وربما لا تزال حتى الآن كذلك، أجاب محمد شكري: صحيح أنا من جذور ريفية أمازيغية، لكنني أعتبر نفسي كاتبا طنجاويا قحا. جواب قصير وذكي ويحمل في طياته العديد من الدلالات، تحدث الكاتب من منطلق المبدع الذي يلغي من حساباته كل الخلفيات، إلا الخلفية التي تفرز الإبداع ، وبما أنه نشأ في طنجة وترعرع فيها وتسكع في فظاءات السوق الداخل وكاسا باراتا ومقهى الحافة، وتشرب من الثراء والغنى في التجارب التي راكمها هناك، فلا يمكن لهويته الثقافية إلا أن تفرز هوية طنجوية الطبع و الطبيعة. هو يعرف، والذي طرح السؤال يعرف بأنه ينحدر من جذور ريفية أمازيغية، بل أن محمد شكري نفسه يعتز بذلك أيضا، لقد صرح لجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 29 يناير سنة 2003 'أنني أمازيغي ولست ضد ترجمة أعمالي إلى الأمازيغية' الكل يعرف ذلك، ولكن السائل كان يبحث بصيغة ملتوية عن البحث في فكر الكاتب محمد شكري، عن أي إشارة تورطه في مساحة معينة من النتاج الإبداعي الذي ينبغي أن ينتصر لتصور أيديولوجي واثني معين، لا ينتمي على كل حال إلا لجهة معينة من البلد، ولكن محمد شكري اختار أن ينتصر لقيم الإنسانية في شموليتها وأبعادها الواسعة، وهو ما تحقق للكاتب الذي ترجمت إبداعاته لأكثر من ثلاثين لغة عالمية. هذا هو الفرق بين بعض عامة الناس الذين يملكون أفقا ضيقا، وبين الأشخاص المبدعين الذين لا تسعهم المناطق الضيقة، المناطق المنغلقة على نفسها. محمد شكري أمازيغي ريفي الجذور، لم ينكر ذلك، ولا يستطيع أحد أن يزايد عليه في ذلك، لكن مجاله الحقيقي كان مدينة طنجة، حيث المدينة منفتحة على جميع الثقافات والأعراق منذ أن كانت تحت الوصاية الدولية، ووصولا إلي جعلها مزارا ومستقرا دائما من قبل ثلة من كبار الكتاب العالميين على رأسهم بول بولز وجان جينيه وغيرهما كثير. في الكتاب الأخير للكاتب الراحل محمد شكري الذي هو في الحقيقة استمرارا لسيرته الذاتية الخبز الحافي المعنون ب 'وجوه' نقرأ في أحد فصول الكتاب حديثه عن تلك الدعوة التي تلقاها من جمعية إلماس الثقافية، ويورد الكاتب الراحل كيف أن بعض أعضاء الجمعية قادوه إلى بلدة بني شيكر، وبالخصوص إلى القرية التي ولد فيها، وخربة المنزل العتيق الذي كان مرتعا لشقاوة وبؤس طفولته المبكرة. يوضح الكاتب محمد شكري في هذا الفصل بما لا يدع مجالا للشك، وبموضوعية وصراحة تامة، سخريته من هؤلاء الذين قادوه إلى ذلك المكان الذي عبر بخط يده أنه لا يشعر نحوه بأية رابطة كيفما كان نوعها، الذين قرؤوا رواية 'وجوه' سيقفون على هذه الحقيقة المدونة في الكتاب. علينا أن نقرأ جيدا موقف محمد شكري الريفي الأمازيغي، انه ليس من الغباء ليعلن عن موقف قد لا يعجب شريحة جد ضئيلة من منطقة الريف الأمازيغي، وليس من الغباء أن يلجأ إلى النفاق والمداهنة من أجل أن يكسب ود هذه الشريحة. الكاتب الحقيقي، أي كاتب كان، ينبغي أن تكون له قضية كبيرة يدافع عنها بشراسة. محمد شكري دافع عن المهمشين الذين يستوطنون حالة الغياب في مجال عنيف لا يعترف إلا بسلطة المال والنفوذ والمحسوبية، بل وتوغل في أعماق المجتمع ليصور لنا عالم النشالين والمتسولين وسوق الرقيق الأبيض والشواذ جنسيا وأجواء الحانات الرخيصة الليلية، وغير ذلك من المظاهر التي تنخر الجسد المغربي برمته، سواء في طنجة أو الريف أو الأطلس أو الدارالبيضاء أو غيرها من مناطق البلاد. وبالتالي جعل محمد شكري إبداعه قضية تشغل الضمير الإنساني الحي، هذا الضمير الذي يرفض الظلم وعدم المساواة وهضم حقوق المرأة والأطفال وغير ذلك من الأمثلة التي تثير مشاعر المجتمعات أيا كانت وفي أي بلد تواجدت. وفي هذا الإطار صرح لجريدة البايس الإسبانية بتاريخ 15 أكتوبر 2002 ' أنا ملتزم اجتماعيا وأميل إلى الدفاع عن الطبقات المهمشة والمنسية والمسحوقة. أنا لست إسبارتاكوس! ، لكني أعتقد أن الناس جميعا لديهم كرامة يلزم احترامها، بالرغم من عدم حصولهم علي فرص في الحياة ' محمد شكري انخرط في هذا المسار، لم يحاول أن ينضوي تحت لواء فئوية ضيقة تخنق أدبه وكتابته هو أولا، وبالتالي تخنق أصحابها، ببساطة لأنها قضية خاسرة بالأساس. لا أحد بمقدوره أن يعاتب الرجل، لأن محمد شكري يؤمن بحرية التعبير، وقد مارسها بأقصى وفي أقسى صورها، لذلك يحق أيضا لمنتقديه أن يجلدوا أفكاره بالطريقة التي يرون أنها مناسبة. قد يتساءلون باستنكار: لماذا لم يقحم قضايا الريف الأمازيغي في صميم أعماله الأدبية؟ ولكن السؤال الآخر الذي يقابل هذا السؤال، هو: هل قضايا الريف الأمازيغي تختلف عن قضايا الكثير من الجهات في المغرب؟ كلنا نعرف الحيف الذي كانت تعرفه بعض المدن والمناطق في جنوب المغرب وفي شرقه، ولا زالت، ساكنة الهامش في الدارالبيضاء نفسها لا تقل همومها ومعاناتها عن ساكنة الريف، بل تفوقها بكثير. يبقى أن نذكر أن الرجل الأول والعظيم الذي ناضل من أجل تحرير البلاد من نير الاحتلال الإسباني، المجاهد العظيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، هو المعلمة الأولى والخالدة التي لن تنمحي من تاريخ الريف الأمازيغي أبدا، الرجل الذي كان ملهما لحركات التحرير في كل العالم، الرجل الذي ابتكر حرب العصابات، وبالتالي تبناها هوشي مينه في الفيتنام. بينما الرجل الثاني الذي يحق لأبناء الريف الأمازيغي أن تفتخر به، هو الأديب المبدع محمد شكري صاحب رواية الخبز الحافي، الرجل الذي أخرج من قاع مجتمع طنجة، وبالتالي من قاع جميع المجتمعات العالمية المهمشة، أمثلة صارخة من الذل والهوان الذي تعانيه فصيلة بشرية تعامل من قبل فئة محظوظة باستصغار واحتقار لا مثيل له، الكاتب الذي كان أول كاتب ينتمي لخريطة الوطن العربي يصل إلى العالمية، قبل نجيب محفوظ، وقبل الطيب صالح، وقبل الطاهر بنجلون، وقبل أمين معلوف. ألا يحق لنا أن نفخر بهذا الريفي الأمازيغي العظيم، ونعتز به الاعتزاز الذي يليق به؟