توفي بإحدى مصحات العاصمة الفرنسية (باريس) امس الأربعاء، رئيس الوزراء التونسي الأسبق، محمد مزالي،عن عمر ناهز 85 عاما بعد صراع مع المرض، نتيجة مشاكل في الكلى. وكان الراحل نقل على عجل من بلاده في شهر مايو الماضي لمتابعة العلاج على نفقة الدولة التونسية، لكن استفحال الداء والتقدم في السن، أخمدا شعلة ذلك المثقف المتوقد حيوية ونشاطا، المؤمن بالحكمة القائلة "العقل السليم في الجسم السليم" إذ لا تنسى صوره وهو يمارس الرياضة مرتديا لباسها، ما أهله ليصبح أحد أعضاء اللجنة الأولمبية الدولية. ووجه الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، بالمناسبة برقية تعزية إلى أسرة الفقيد، أشاد فيها بمناقبه وبمسيرته النضالية الطويلة الحكومية والحزبية وبمآثره في المجالات التربوية والثقافية والرياضية،معربا عن أحر تعازيه وصادق التعاطف والمواساة. وتقلد الراحل ما بين 1956 ومنتصف عقد الثمانينات من القرن الماضي عدة مسؤوليات ومناصب حكومية وحزبية رفيعة قبل أن يضطلع بمهام رئاسة الوزراء من سنة 1980 إلى سنة 1986 في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. وعرف مزالي بانشغالاته الأدبية والثقافية، فهو مؤسس المجلة الشهرية "الفكر" كما ترأس في وقت سابق اتحاد الكتاب التونسيين،و كان عضوا باللجنة الاولمبية الدولية. وواجه مزالي في عام 1986 حكما بالإعدام بتهمة شكك الكثيرون في صحتها، وخاصة وأنها تتعلق بالفساد ومحاولة الإطاحة بالرئيس بورقيبة الذي كان يعاني في تلك الفترة من أعراض الخرف والشيخوخة، ما سهل التأثير عليه من طرف محيط الحاشية والمقربين الذين كانوا يتصارعون فيما بينهم على خلافته، فاتفقوا أولا على التخلص بأي ثمن من مزالي، الرجل النافذ في مؤسسات الدولة والمجتمع والحزب ،والذي يتوفر على شرعية وطنية ونضالية غير مشكوك فيها، فحيكت "المؤامرة" ضده وألصقت به تهمة غريبة ترتبط بالفساد واستغلال النفوذ،وهو أمر مستبعد من رجل فكر. وأمام العزلة والحصار الذي أحسه مزالي، اضطر إلى الفرار بجلده الى أوروبا، متسللا عبر الحدود الجزائرية التي قيل إنه قطعها مشيا على الأقدام،متخفيا في زي بدوية. وقضى الراحل 16 عاما في المنفى قبل أن تصحح محكمة تونسية عام 2002 الحكم الصادر ضده ما سمح له بالعودة لبلاده. ولم يتوقف مزالي، وهو المجادل الفكري، العميق الثقافة، عن إثارة الجدل حتى عندما عاد إلى وطنه حينما ألف كتاب "نصيبي من الحقيقة" نفى فيه كل تهم الفساد التي نسبت إليه، ناكرا أن يكون قد خطط للإطاحة ببورقيبة، معتبرا نفسه ضحية تقدم بورقيبة في العمر واستماعه إلى وشايات ودسائس وزراء آخرين. ويوارى مزالي، الثرى يوم غد الجمعة بمدينة المنستير ،مسقط رأسه. وبرحيل مزالي تفقد تونس أحد رجالات الوطنية الأفذاذ، الذين ساهموا في بناء نهضتها الحديثة ، وتركوا آثارا لا يمكن محوها في المجالات والميادين التي انخرطوا. فقد شغل الراحل وزارات التعليم والدفاع والصحة والداخلية إضافة إلى أدواره الطليعية في الحزب الحاكم، كمفكر وكاتب ومناضل متمرس. وشكل إبعاده عن الوزارة ومن قائمة الخلفاء المحتملين للرئيس بورقيبة، صدمة للرأي العام المغاربي في ذلك الوقت، واعتبر مراقبون ذلك الانقلاب الدرامي، دليلا على استحكام مرض مزدوج، عانى منه النظام السياسي الذي شيده الرئيس بورقيبة بأسلوبه الخاص في الحكم ونهجه الفردي المثير في قيادة الأمة التونسية. وقد يكون مزالي، فقد مكانه في المشهد السياسي التونسي نتيجة أخطاء ارتكبها ربما صدرت عنه دون أن ينتبه إلى عواقبها ، لكن المؤكد أنه كان موزعا بين شخصيتين: المثقف المشبع بالقيم الفلسفية التي تمثلها أثناء دراسته الجامعية وبقائه متصلا بالفكر والأدب، الأمر الذي جعله يغلب معيار الأخلاق في صراع سياسي طاحن لا يرحم، لذلك صعب عليه أن يوفق بين النزوع الفكري وصرامة رجل الدولة التي تفرض عليه أن يتصف بقدر لا بأس به من المكر والدهاء والبطش السياسي بخصومه. تجدر الإشارة في هذا الصدد الى أن الراحل الذي كان مزدوج الثقافتين الفرنسية والعربية، قاد مخطط تعريب التعليم في بلاده بحماسة، الأمر الذي لم تقبله الأوساط الفرانكفونية ما جعلها تهلل لسقوطه إن لم تكن قد ساهمت في صنعه ، أو على الأقل دخلت على خط الصراعات الداخلية التي كانت تعصف بالنظام الذي وصل ذروة الاحتضار، فسهل تغييره يوم السابع من نوفمبر عام 1987 على يد الرئيس زين العابدين بن علي ، الذي استقدمه بورقيبة من المؤسسة الأمنية ليستعين به على ضبط الأوضاع ، فأنصف مزالي أو صفح عنه. ففي جميع الأحوال فإن الرئيس بن علي يعرف حقيقة التهم التي ألصقت بالراحل مزالي، بحكم مسؤولياته السابقة في جهازي الأمن والداخلية، قبل أن يخلفه في ذات المنصب الذي تركه ليصبح رئيسا ثانيا لجمهورية التونسية.