خلال 14 شهرا شغل فيها منصب مدير الاستخبارات المركزية الأميركية، ابتعد ديفيد بترايوس عن دائرة الضوء التي دخلها من قبل كأحد أشهر جنرالات الولاياتالمتحدة. وقد أكسبه أسلوبه المتواضع ثقة البيت الأبيض، وخفف من حدة التوترات القديمة مع الرئيس أوباما، ومكنه من التغلب على بعض الشكوك التي واجهها من قوة العمل في الوكالة، التي دائما ما كانت تظهر قلقا تجاه قادتها من جنرالات الجيش. لكن بعد الهجوم الذي أسفر عن مقتل أربعة أميركيين قبل عدة أسابيع في بنغازي، بليبيا، ترك سلوكه الهادئ الرصين وميل الوكالة للسرية فراغا ملأته وسائل الإعلام الإخبارية وغضب الكونغرس حول ما إذا كانت الوكالة قادرة على الحيلولة دون وقوع الهجوم. وبدلا من الاعتراف بوجود وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في بنغازي، خاض بترايوس ومسؤولو الوكالة الآخرون معركة خاسرة للحفاظ على السرية، رغم تحول الأحداث إلى محور للخلاف في الحملة الرئاسية. أخيرا، ومع غياب بترايوس عن الولاياتالمتحدة في زيارة لمنطقة الشرق الأوسط، دفعت ضغوط المنتقدين مسؤولي الاستخبارات إلى تقديم روايتهم الخاصة حول ليلة الفوضى التي قتل فيها ضابطا أمن والسفير الأميركي كريستوفر ستيفنز، ودبلوماسي آخر. اعترف المسؤولون، للمرة الأولى، بأن ضباطي الأمن، وكلاهما كان من القوات الخاصة التابعة لمشاة البحرية، كانا متعاقدين مع وكالة الاستخبارات المركزية التي كانت تشغل أحد المباني التي تعرضت للهجوم. وتأتي أزمة بنغازي كأكبر تحد يواجه بترايوس حتى الآن في أول وظيفة مدنية يشغلها. وكان بترايوس قد تقاعد من الجيش وتخلى عن لقب الجنرال عندما انتقل إلى وكالة الاستخبارات. حصل بترايوس على أفضل التقييمات من زملائه بالحكومة والخبراء بالخارج على أدائه بشكل عام. لكن الانتقال كان يعني تعلم ثقافة مختلفة كلية، في وكالة تشتهر بكونها معارضة للغرباء عنها. وتقول السيناتور دياني فينستاين، رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ: «أعتقد أنه رجل ذكي، لكنه أيضا جنرال متمرس»، وأضافت: «رتبة الجنرال تستحق أداء التحية العسكرية لا التشكيك فيها، وهو يدير وكالة يخضع كل شيء فيها للشكوك، سواء أكنت جنرالا أو سيناتورا، إنه تغير الثقافة». كان على بترايوس، الذي يكمل عامه الستين الأسبوع المقبل، أن يتعلم أن ضباط وكالة الاستخبارات لن يقبلوا بقراراته بشكل تلقائي كما يفعل مساعدوه في الجيش غالبا. ويقول أحد العاملين السابقين في وكالة الاستخبارات المركزية: «التوجه في الوكالة هو (أنك قد تكون المدير لكني المحلل الأعلم بشؤون تايلاند)». تخلى بترايوس، الذي طالما كان نجما في وسائل الإعلام كونه أبرز قادة جيله من العسكريين، فجأة عن هذا الأسلوب في وكالة الاستخبارات المركزية، وعمل وسط شكاوى واسعة الانتشار بشأن تسريب معلومات سرية، وتوقف عن إجراء المقابلات، ويتحدث إلى الكونغرس في جلسات مغلقة، ويسافر حول العالم لإجراء مشاورات مع وكالات الاستخبارات الأجنبية، بتغطية محدودة للغاية من وسائل الإعلام. ويقول مايكل أوهانلون، الباحث بمعهد بروكينغز وصديق بترايوس وعضو المجلس الاستشاري لوكالة الاستخبارات المركزية: «هو يعتقد أن عليه أن يكون بالغ السرية، ويترك لباقي أفراد الحكومة الإدلاء بالتصريحات». يقف أسلوب بترايوس من السرية والعملية على طرف نقيض من سلفه ليون بانيتا الذي يشغل الآن منصب وزير الدفاع. كان بانيتا، السياسي الاجتماعي بحسب مهنته، منفتحا بشكل لافت للنظر على الكونغرس وأحيانا مع العامة - إلى حد الخطأ، بحسب البعض، عندما تحدث صراحة بعد مغادرة منصبه في وكالة الاستخبارات عن دور الطبيب الباكستاني في المساعدة في اقتفاء أثر أسامة بن لادن أو بشأن عمليات الطائرات من دون طيار التي تديرها الوكالة. وكان لفلسفة بترايوس من السرية والعمل الدؤوب تأثير إيجابي عليه، فالتوترات القديمة مع أوباما التي تنامت نتيجة اختلاف وجهات النظر بشأن الحروب في العراق وأفغانستان، يبدو أنها تلاشت الآن، حيث يشاهد بترايوس في البيت الأبيض عدة مرات في الأسبوع، ليحضر اجتماعات مجلس الأمن القومي، والاجتماع الأسبوعي مع جيمس كلابر مدير الاستخبارات الوطنية، وتوماس دونيلون مستشار الرئيس أوباما للأمن القومي. وقد صرح دونيلون مؤخرا بأن «مدير الاستخبارات المركزية قام بمهمة استثنائية عندما جلب خبرة كبيرة وصرامة فكرية وحماسة إلى عمله». ويقول بروس ريدل، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات ومستشار الرئيس: «عندما تولى أوباما الرئاسة، كان كل منهم يحمل شكوكا تجاه الآخر. لكن الواضح، أن بترايوس تحول خلال السنوات الأربع الماضية، إلى موضع ثقة أوباما». نجح بترايوس في المهمة الحساسة لدعم الثوار في الحرب الأهلية في سوريا، وفي الوقت ذاته منع السلاح عن المتطرفين المعادين للولايات المتحدة. لكن، عندما لامست طائرته «سي - 17 غلوبماستر» أرض تركيا في سبتمبر (أيلول) لإجراء مشاورات حول سوريا، انتهت الزيارة دون أي ذكر من وسائل الإعلام. حاول بترايوس على مدى شهور التعامل مع شكاوى المسؤولين الباكستانيين بشأن هجمات الطائرات من دون طيار ضد المقاتلين، مع إطلاع مسؤولي وزارة الخارجية على الأخبار بالضربات المستقبلية المحتملة، وهي السياسة التي أطلق عليها «الموافقة المسبقة»، التي منعت التعارض بين الوكالات. وخلال زياراته إلى الشرق الأوسط هذا الأسبوع، نقلت وسائل الإعلام المحلية، بإيجاز، نبأ وصوله إلى القاهرة. داخل الوكالة، يقول بعض مساعديه، إنه قضى، بشكل كبير، على الشكوك التي أحاطت بالجنرال الشهير، الذي كانت آراؤه المعلنة عن التقدم في الحرب في أفغانستان، إلى جانب أمور أخرى، أكثر تفاؤلا من آراء محللي وكالة الاستخبارات. لكن، بالمقارنة مع بانيتا الذي حاول استرضاء قوة العمل ولم يتساءل على الأغلب بشأن تفاصيل العمليات، يعتبر بترايوس مديرا كثير المطالب، لا يتردد في أن يأمر بإعادة القيام بعمل كان دون المستوى المطلوب أو تعديل تفاصيل خطة ما. وقال مايكل موريل، نائب مدير الوكالة: «لم أر أي شخص يملك مثل هذا الإصرار، على الإطلاق. فهو يذكر ما يطلبه. وبعد ثلاثة أسابيع تجده يقول في الاجتماع الصباحي: (ما الذي حدث لهذا؟ هل تم الانتهاء منه؟)». لكن أزمة بنغازي شكلت اختبارا استثنائيا أمام بترايوس. فبعد مصرع الدبلوماسيين، بدا مسؤولو الاستخبارات قلقين من أن الكشف عن مدى ووسائل وجود الوكالة الكبير في المدينة لن يقدم شيئا يذكر للصحافيين لنشره. وقد حصل بعض المنتقدين المحافظين على سلسلة من التقارير التي أذاعتها شبكة «فوكس نيوز» ومصادر إخبارية أخرى من أن الأميركيين الأربعة ماتوا بسبب إهمال الإدارة. لم يتحدث بترايوس علنا، لكن ذلك لم يبعده عن القصة. فقد انتقدت بعض التقارير الإخبارية شهادته السرية أمام الكونغرس بعد أيام من الهجوم، والتي تدعم وجهة النظر بأن الهجوم لم يكن مخططا له، لكنه رد عفوي للفيديو المسيء للرسول. ثم نقلت قناة «فوكس نيوز» الأسبوع الماضي أن الوكالة رفضت طلبات عاجلة للحصول على المساعدة من العملاء الذين تعرضوا للهجوم في ليبيا وكان رد الوكالة الرفض الصريح. وقالت الوكالة في بيانها: «لم يكن لأي شخص في أي موقع في الوكالة أن يطلب من أحد ألا يساعد من هم في حاجة إلى المساعدة». لم يضع البيان حدا للتكهنات، لكنه زاد منها. فخلص ويليام كريستول، رئيس تحرير صحيفة «ويكلي استاندرد»، إلى أن الوكالة كان تشير بأصابعها إلى البيت الأبيض، وهو بحسب اعتقاده أن البيت الأبيض هو الذي رفض طلب التدخل. وكان العنوان الرئيس على مدونة «ويكلي ستاندرد» «بترايوس يلقي أوباما تحت الحافلة». وربما كان الأسوأ بالنسبة لقائد عسكري سابق مثل بترايوس، أن يتهم والد تايرون وودز، أحد الضباط القتلى، الذي اتهم إدارة أوباما في المقابلات بالتخلي، بشكل مباشر، عن ابنه وآخرين وتركهم يواجهون حتفهم ولم يكترثوا لوفاتهم. وأوردت صحيفة «وول ستريت جورنال»، يوم الجمعة، أن بعض موظفي الوكالة أبدوا امتعاضهم بشأن عدم حضور بترايوس جنازات ضابطي الأمن. وقال المسؤولون إنه كان قلقا من أن حضوره سيؤكد ارتباطهم بالوكالة، الذي كان لا يزال سرا في تلك الفترة. وطمعا في النجاة من عاصفة العلاقات العامة التي تتجمع، دعا مسؤولو الاستخبارات الصحافيين يوم الخميس، إلى مؤتمر صحافي يقدمون الحقيقة الكاملة، من وجهة نظرهم. وعرضوا السياق الزمني لتحركات وكالة الاستخبارات في ليلة الهجوم، وهاجموا الاعتقاد بأن الأميركيين المحاصرين تركوا لمواجهة مصيرهم تحت النيران، وهو ما يفسر السبب في أن بعض جهود الإنقاذ المحتملة التي تمت مناقشتها في التقارير الإخبارية لم يكن من الممكن تنفيذها على الإطلاق. الجدير بالذكر أنهم سعوا إلى إنقاذ بترايوس من بعض التكهنات السلبية التي أحاطت به، وقال أحد مسؤولي الوكالة إن «مدير وكالة الاستخبارات شارك، بشكل كامل، منذ بداية استجابة الوكالة، وبخاصة في مهمة الإنقاذ التي كانت سريعة وعنيفة». وقال المسؤول الذي تحدث شريطة عدم ذكر اسمه: «القول بأنه لم يشارك بصورة ما، لا أساس له». بالنسبة لبترايوس، الذي تعرض للسخرية في إحدى المرات على صفحة كاملة في إحدى الصحف أثناء النقاش بشأن الحرب في العراق وقد كتب تحت صورته عنوان ضخم «الجنرال يخوننا - لم يكن بالجديد بالنسبة له أن يكون وسط عاصفة نارية سياسية. ويقول ضابط استخبارات مقرب من بترايوس: «هذه هي واشنطن، لذا من الطبيعي أن يشارك كل المحافظين في هذا النزال السياسي». ويضيف أوهانلون: «مهما كانت التحديات التي واجهته في عامه الأول، أنا على يقين بأنه يحب هذه المهمة. ربما يفتقد الجيش على المستوى العاطفي، لكنه يحب عمله». كان مستقبل بترايوس موضوعا للشائعات دون شك، حيث ظن البعض أنه سيكون نائب ميت رومني في سباق الرئاسة، أو ربما الأكثر معقولية، هو أنه يرغب في رئاسة برينستون. وفي كلمة له في نهاية سبتمبر، لم يستبعد ذلك في المستقبل، لكنه قال إنه يعيش في الوقت الراهن حلما في وكالة الاستخبارات المركزية، لكن ذلك كان قبل الاتهامات التي وجهت إليه هذا الأسبوع بشأن هجوم بنغازي.