هناك اليوم اتجاه عام يميل إلى تحميل «الربيع العربي»، بشكل خاطئ، المسؤولية عما يجري في سوريا والشرق الأوسط من أزمات. حتى قبل الاضطرابات المحتدمة حاليا، سارع عدد كبير من المراقبين إلى الاستنتاج أن الربيع انقلب شتاءً. وهنا في أميركا، وقبل ليلة على المناظرة الرئاسية حول السياسة الخارجية، نشر مركز «بيو» إحصاء يُظهر أن الأميركيين باتوا أكثر تشكيكاً بحدوث تغيير طويل الأمد بعد «الربيع العربي». وقد وجدت الدراسة أن 57 في المئة من الأميركيين (بعد نيسان العام 2011) باتوا لا يؤمنون بأن الانتفاضات ستحسن حياة الناس في تلك البلدان. الحقيقة أن جذور الاضطرابات الحالية لا ترتبط بالرغبة في التخلص من الأنظمة الديكتاتورية التي تجسدت خلال الثورات، بل هي تعود إلى ما قبل الانتفاضات.. والتقدم سيحتاج إلى وقت أطول مما نتنمنى. في الواقع، المؤسسات الحكومية الفاسدة والمهترئة، المجتمع المدني المتخلف، الافتقار إلى وسائل التعبير السلمية وغياب حريات التعبير... كلها مخلفات الأنظمة السابقة. لهذا يجدر إلقاء اللوم على الديكتاتوريين وليس على «الربيع العربي». في المقابل، ما هي الآثار المترتبة عن سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية التي ما فتئت تصرّح عبر إدارتها بأن «الربيع العربي» كان أمراً جيداً في نهاية المطاف؟ هل كان يجدر بواشنطن العمل على قمع تلك الانتفاضات؟ أم كانت معارضتها للحراك، في وجه التأييد الشعبي الساحق، سيزيد من تآكل نفوذها في المنطقة؟ مع التأكيد أن «الربيع العربي» حطم النظرية القائلة بأن الأنظمة الاستبدادية العلمانية مستقرة، فالديناميات المضطربة حالياً ليست سوى صنيعة تلك الأنظمة. واقترن الانتقاص من قيمة «الربيع العربي» بنقد لاذع من بعض المسؤولين في إدارة أوباما لما رأوه فشلاً لدى واشنطن في ضمان المزيد من التقدم في تحقيق الديموقراطية. حتى أن بعضهم رأى أن الاضطراب في منطقة الشرق الأوسط هو نتيجة الدعم الأميركي للتغيير السياسي. تلك الانتقادات تبالغ في تقييم قدرة أميركا على خلق الديموقراطيات. حتى في الأماكن التي لم تساوم فيها أميركا أو تدعم الديكاتوريين، بقيت قدرتها في الحد الأدنى. القوى الداخلية هي التي تقود التحولات. ويقتصر تأثير المعونة الأميركية في تشجيع التغيير السياسي على الدولارات التي تتيحها، والأهم، على الواقع المتواضع لما يمكن أن تفعله الأموال في تعزيز مثل هذا التغيير. أما تأثير الضغوط الديبلوماسية فيبقى محدوداً لأنه يواجه برفض قوى المعارضة الداخلية ودعم القوى الخارجية مثل روسيا والصين. في حين أن تأثير القوة العسكرية على فرض الديموقراطية فلا يكاد يُذكر، والعراق خير دليل. ما سبق لا يعني أنه لا يجدر بالولاياتالمتحدة أن تمارس نفوذها لدعم القيم الديموقراطية، ولكن لا يمكن أن نتوقع أن تكون قادرة على إدارة الأحداث في تلك الدول. العديد من العمليات الانتقالية نحو الديموقراطية كانت صاخبة. البرتغال شهدت قيام ست حكومات موقتة في الأشهر ال27 الأولى بعد سقوط الاستبداد. كما شهد العديد من البلدان محاولات انقلاب عسكرية متكررة خلال المراحل الانتقالية. لا شك في أن إعادة انبعاث الديموقراطية من رماد الأنظمة الديكتاتورية عملية طويلة وشاقة. هي تتطلب تغييراً في الثقافة السياسية وفي قواعد اللعبة، كما تقتضي بناء مجتمع مدني والعديد من الإصلاحات التقنية. ولا يجدر أن ينظر إلى الاضطرابات الأخيرة والمستمرة في المستقبل على أنها اتهام لوعد الديموقراطية، بل هي اتهام لتلك الاستراتيجية التي طالما ارتكزت على ذلك النوع من الاستقرار الهش الذي كان الديكتاتوريون يكفلون ضمانه.