مما لا شك فيه أن الحكومة المغربية أو'الملتحية' كما يتم تسميتها عادة والمعارضة سابقا، قد فطنت جيدا طيلة الثمانية أشهر من أدائها الحكومي، إلى البون الشاسع بين التعليق وانتقاد الفعل السياسي وبين ممارسته. حكومة عدت استثناء مغربيا في سياق موجة الربيع التي هبّت على العالم العربي، عملت فيها حركة 20 فبراير على تجفيف الأشجار لإضرام نار التغيير، فتمخض حراكها عن انتخابات تشريعية نزيهة، إلى جانب ثلاثة أحزاب لخمس سنوات قادِمة، في ظل دستور جديد صوت عليه المغاربة في فاتح يوليو من العام الماضي، أعطى صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة. لكن يبدو أن انتظارات وآمال الشارع المغربي من الحكومة الجديدة، بدأت ترتطم على أرض واقع الأداء المتذبذب وغير الواضح، وربما تهدد بانتكاسة وعودة إلى الوراء. حكومة ظلت تتأرجح طيلة الثمانية أشهر بين نوايا طيبة وحماسة وخطابات حبلى بالمجازات والإشارات والتلميحات عن وجود جيوب المقاومة في مفاصل الحكم، تليها اعتذارات وتجديد الولاء وبناء الثقة مع القصر، ناهيك عن تناقضات في خطاب الدعوة لمحاربة الفساد تارة وإعلان النية في العفو عما سلف، تارة أخرى، (في حوار تلفزيوني مع قناة الجزيرة)، بموازاة مع الطمأنة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي المغربي مرة والإعلان عن وجود أزمة حقيقية في أحايين أخرى. هذا دون التباهي بنسج علاقة 'سمن وعسل' مع القصر سرعان ما تتحول إلى طعم 'العلقم'. كما تتأرجح الحكومة أيضا بين إرث ملفات ثقيلة تتعلق بالبطالة والفساد واقتصاد الريع والعجز في الميزان التجاري...والسعي للتنزيل الديمقراطي لمقتضيات الدستور الجديد . أما المعارضة فتبدو غير راضية عن التدبير الحكومي، متهمة إياه بغياب رؤية واضحة وإستراتيجية محكمة والتخبط في الارتجال، فضلا عن لجوئه للمديونية والزيادة في أسعار المحروقات وأسعار بعض المواد الغذائية والتلميح بإلغاء مجانية التعليم والتهوين من تأثير الأزمة العالمية على اقتصادنا المغربي. ناهيك عن شكواها من تعرضها للتهميش كقوة اقتراحية وكشريك مؤسساتي في تشييد صرح الديمقراطية، (مثلا عدم استشارتها بخصوص سحب الثقة من الوسيط الأممي المكلف بقضية الصحراء المغربية)، واستغلال الأغلبية البرلمانية للقيام بدور الحكومة والمعارضة في نفس الآن، لدرجة بدأ الحديث عن هيمنة الصوت السياسي الحكومي على الصوت المعارض، سواء تحت قبة البرلمان أو في الإعلام العمومي. لكن أحيانا، تقف المعارضة عند حدود نقد السلوكيات الشخصية والتركيز على الشكليات عوض تشريح "السياسات العمومية"، مستندة أحيانا بما تسميه "الشرعية التاريخية" في أدائها المعارض؛ والحقيقة أنها باتت مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى التحالف كأحزاب ونقابات ومجتمع مدني ومأسسة وتقوية وضعها كمعارضة فاعلة وبناءة ، جاهزة للتداول على السلطة . أما المواطن المغربي، والذي يعد أهم مكسب من هذا الربيع العربي، ربيع أنجب مواطنا جسورا أكثر جرأة وقدرة على إحداث التغيير والمواجهة، وأطاح بجبال خوف جثمت على صدره لسنوات طوال، فقد ظل مشدودا إلى سجيته وإلى الاختيار الديمقراطي، ومتحمسا لإنجاح اللحظة السياسية الراهنة، ومهللا ومشيدا بعفوية وتلقائية لمبادرات حكومية جريئة من قبيل كشف ملفات الكريمات، ومرتاحا أحايين أخرى، لفتح بعض ملفات الفساد، رغم انعدام الجرأة الكافية، مراعاة من الحكومة لتوازنات سياسية، لكنه في نفس الوقت معبرا عن استيائه من الزيادة الأخيرة في أسعار المحروقات وأسعار بعض المواد الغذائية وفرض رسوم لولوج بعض المعاهد العليا، و غير مرتاح من تكرار رئيس الحكومة لولائه للملك في كثير من التصريحات، وغضبه من المزايدات التي تنشب أحيانا بين الحكومة والمعارضة، بشكل يتم فيه الانتقاص من قيمة العمل السياسي ويسقطه في فخ الصراخ والمهاترات البعيدة عن النقد الرصين والمجدي. فالأمور بخواتمها، كما يقال، والحكومة انتخبت لخمس سنوات وليس لثمانية أشهر، وإن كان المواطن المغربي قد مل فعلا الانتظارية والخطابات المدغدغة للمشاعر وكثرة شكوى المسؤولين وتنصلهم من مهامهم، ويكفيه شكواه وتذمره، ومل أيضا من كثرة المماحكات والمزايدات وتبادل الاتهامات التي تظل على العموم ضد مصلحته، وضد مصلحة الوضع السياسي الراهن، وعوض البحث عن 'العفاريت' المندسة في الكواليس كما يرد عادة في تصريحات رئيس الحكومة المغربية، الأجدر بالحكومة المغربية أن تعي أن وضع المواطن المغربي السياسي والاقتصادي والاجتماعي على كف عفريت، وأن الحكومة والمعارضة أحزابا ونقابات وإعلاما ومجتمعا مدنيا مطالبة بالتنسيق وبتكثيف جهودها لإنجاح اللحظة السياسية الراهنة، والتي هي بالأساس إنجاح لصناديق الاقتراع، وبالتالي للاختيار الديمقراطي المغربي حتى لا تحوم حول عبارة 'الاستثناء المغربي' التي تداولها الإعلام العربي والغربي بسخاء، الكثير من الشكوك وفقدان الثقة.