سُنة حميدة أن يمارس البرلمان حقه في مساءلة رئيس الحكومة كل شهر، وأن يكون البرلمانيون ورئيس الحكومة في مستوى المساءلة؛ وظاهرة إيجابية وصحية أن يصبح الأمر تقليدا حضاريا وتمرينا تشاركيا، تقتضيه الممارسة الديمقراطية السليمة، الكفيلة بترسيخ قيم الحوار والرفع من الأداء السياسي والرقي بالمجتمع نحو واقع أفضل. أما أن يتحول البرلمان إلى حلبة للصراع السلبي والسفسطة المجانية وتصريف الأنانيات والأحقاد والحسابات الشخصية، كما يحدث للأسف في ممارستنا الفتية، فتلك حكاية أخرى. إن ما نعانيه -كمواطنين- من هذه اللقاءات يدعو فعلا إلى القلق، ويبعث على الشك في أهلية سياسيينا، معارضة وحكومة، لقيادة هذا الوطن نحو بر الأمان. فما الغاية من حضور رئيس الحكومة إلى قبة البرلمان إذا لم تكن من أجل تدارس السبل الكفيلة بتجاوز الوضعية المتردية في بلادنا، والبحث عن الحلول الناجعة لمعضلاتنا المستعصية؟ ما جدوى أن يكرر السيد رئيس الحكومة ما يقوله في كل مناسبة وحين من هواجس ومخاوف من أشباح ومتحكمين وخصوم وهميين، يتجسدون في ضمير الغائب، ولا طعم لهم ولا لون ولا رائحة؟ بماذا يفيدنا -كمتضررين من الأزمة- أن يقول السيد رئيس الحكومة إنه بنى برنامجه على مغالطات ومعلومات زائفة أو أن يحمل إخفاقاته الوهمية للتجارب الحكومية السابقة أو يحتمي بمحدودية صلاحياته ومجال تدخله، والحال أنه لا يتوقف عن التغني بالتجربة المغربية الرائدة وقدرتها على توقيف زحف الربيع العربي الذي لا زال قائما في فلتاته الخطابية؟ أي ضير في أن يخرج السيد رئيس الحكومة من هذه الشرنقة، وأن يفك عنا حصارها، ويتقدم إلى الأمام في تحمل مسؤولياته كاملة ويتخذ قرارات حاسمة تستجيب لتطلعات الجماهير ولأسئلة الواقع الحارقة، دون تبرير أو تأويل أو بحث عن مبررات للإخفاق أو جيوب للمقاومة؟ ثم ما جدوى أن ينحصر دور المعارضة في المناقشات التقنية البيزنطية، وتحويل القضايا الشكلية والجانبية إلى قضايا جوهرية؟ ما الفائدة من أن يهدر الوقت العام في الدفاع عن حق المعارضة أو الأغلبية في التساوي في الحصص الزمنية، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء بناء تدخلات تستحق المدة الزمنية وتحقق الجودة والفعالية وملامسة القضايا الحقيقية وتحسن أداء العمل الحكومي وترفع من قيمة العمل البرلماني؟ إن ما نراه كمستهلكين للنقل التلفزي للقاءات الشهرية، من زعيق وتشنجات وملاسنات وانسحابات، ومن تدخلات سطحية ارتجالية، تستمد معرفتها من الكواليس وتنبني على الظن والتخمين، لا يمكن أن يفسر إلا بالعجز عن القيام بعمل برلماني حقيقي، يتسم بالرزانة والموضوعية، ويستند إلى دراسة عميقة للملفات، ويقوم على الاحترافية والكفاءة، ويقدم البدائل والاقتراحات الناجعة؛ والدليل على هذا العجز هو حصيلة الدورة الربيعية التي لم تستطع أن تتجاوز قانونا تنظيميا وحيدا، وبهذا الإيقاع سيتطلب تنزيل الدستور عشرين دورة كاملة. هكذا يفقد الخطاب مصداقيته وقدرته على بناء ذات قوية، قادرة على الدخول في العصر ومواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، ويتحول إلى خطاب دعائي تضليلي، يضخم الأنا ويدمر الآخر، ويزرع ثقافة الإحباط، ويسخر الأذهان لقبول الواقع وانتظار منقذ مجهول. من المفروض أن يكون لقاء ممثلي الأمة مع رئيس الحكومة تتويجا للقاءات الأسبوعية مع الوزراء وللعمل الميداني والاحتكاك بالقضايا الحقيقية، فيخصص للقضايا الاستراتيجية الكبرى، ويكون فرصة للتقويم وتعميق النظر وتجاوز السلبيات والمعيقات، في جو تشاركي يعكس إيمان الجميع بمشروع الاستثناء المغربي، ما دام الجميع يتفق على المنطلقات، وما دام الجميع معنيا بإنجاح التجربة المغربية، على اختلاف المواقع والحساسيات. وإذا كان شعار المرحلة البراق هو محاربة الفساد، فليس هناك فساد أسوأ من إهدار الوقت العام في سفسطة عبثية ومزايدات سياسوية لا تسمن ولا تغني من جوع.