ضرورة مراجعة المسار لعل أي تقييم لعمل حكومة السيد عبد الإله بنكيران قد يُعتبر قبل الأوان، كما يتردد على ألسنة الكثير من المتابعين والخبراء. لذلك ينبغي الانتظار، على الأقل، حتى تُطفئ هذه الحكومة شمعتها الأولى! لكن ألا يتعارض هذا مع منطق المحاسبة الموازية الذي يُعد عنصرا جوهريا في أي مشروع، ينطلق معها وتستمر إلى أن ينتهي، إذ تشكل المعيار الذي يقيس طبيعة عطائه، ويجدد عجلة سيره؟ لذلك، بدا لي أنه من الضروري أن أدلي بهذه الورقة التي ليس المقصد منها ممارسة أي تحامل على حزب العدالة والتنمية، ولا على الحكومة المغربية الحالية، وإنما إسهاما في النقاش الفكري البناء الذي يقارب هذه التجربة السياسية الجديدة من خلال تحليل بعض جوانبها الإيجابية والسلبية، بالتركيز على أن حزب العدالة والتنمية أصبح اليوم في أمس الحاجة إلى أن يتوقف، ولو لبرهة من الزمن، ويُعيد النظر في طريقة تدبيره للشأن الوطني العام، وتنزيله لخطة الإصلاح التي ظل يراهن عليها وهو في خندق المعارضة. لا سيما وأن الطريقة التي غدا يَسير بها عمل الحكومة في الأشهر الأخيرة يعتريها بعض الخلل وكثير من الغموض، مما يقتضي من رئيس الحكومة أن يراجع الاستراتيجية التي ينتهجها، ويعيد النظر في التركيبة الوزارية التي يعتمدها. من هذا المنطلق، إن هذه المقاربة تنبع بالدرجة الأولى من التقدير العميق لهذه التجربة السياسية الجديدة الواعدة التي يتزعمها حزب العدالة والتنمية، والخوف عليها من أن تهوي في منزلق خطير يُضيّع على المغرب فرصة تاريخية للتغيير والإصلاح والتقدم، قد يَؤول بالبلاد، لا قدر الله تعالى، إلى الفوضى والشغب والصراع. هكذا فإن الأمر يتطلب من أي مثقف حقيقي أن يسهم في صناعة الوعي الإيجابي، الذي من شأنه أن يُفعّل التنمية الفكرية لدى مختلف شرائح المجتمع، ويؤهل النقاش السياسي عند شتى أقطاب الحكم والتسيير، وما أحوج هذه المرحلة التاريخية، التي يمر بها المغرب، إلى مثل هذا الوعي. إن الحكومة المغربية الحالية منذ تم تعيينها في 3 يناير 2012 وهي تبحث عن الذات، بمعنى أن ملامحها العامة لم تتحدد بعد رغم مرور أكثر من سبعة أشهر على انطلاق أشغالها. وينبغي أن نعترف بذلك بكل جرأة وموضوعية، ليس من باب التنقيص منها، وإنما من باب النقد الذاتي البناء. لا سيما وأن الوتيرة التي يسير بها العمل الحكومي يتخلله البطء والتردد والإبهام، وهذا ليس في صالح الحكومة، أو بالأحرى حزب العدالة والتنمية الذي يترأسها، لأن الوقت يمر بسرعة فائقة، والشعب لم يلمس بعد جانبا من الوعود الوردية، التي كان يقدمها له حزب المصباح عندما كان في المعارضة. عرقلة عمل حكومة بنكيران في الحقيقة، هناك أكثر من سبب يجعل هذه الحكومة تغرق في البحث عن الذات، وإذا لم تتدارك الأمر، فتصحح مسارها السياسي واستراتيجية العمل والتنفيذ وتنفلت من عنق الزجاجة، ومن ثم تشرع في التعاطي مع قضايا الإصلاح الجوهرية وملفات الفساد الكبرى بصرامة وجدية، فإن البوصلة سوف تضيع منها وتفقد اتجاهها الصحيح! ولا يتم استيعاب الوضعية الغامضة التي توجد فيها حكومة السيد عبد الإله بنكيران إلا بتفكيك الأسباب المعلنة والخفية، التي تعرقل الأداء الحكومي، وتعيق ترجمة القوانين الجديدة التي جاء بها دستور 2011 على أرض الواقع. وتتحدد أهم هذه الأسباب كالآتي: قلة التجربة: ويتجلى ذلك من خلال حاشية بعض الوزارات التي يديرها حزب العدالة والتنمية، وهي تتألف في أغلبها من رفاق الدرب والنضال، وهذا ما يؤثر على أداء هذه المؤسسات الحيوية، التي يتطلب تسييرها توظيف الكفاءات العلمية المتخصصة والمؤهلة، لا الفعاليات المناضلة التي لا تفهم شيئا في التدبير المحكم والتخطيط الاستراتيجي وإدارة الأزمات. وثمة الكثير من الوقائع التي تؤكد هذا الأمر، وخير مثال على ذلك رسالة بعثها مستشار في وزارة مهمة إلى مؤسسة في المهجر، يطلب منها بحثا حول إحدى القضايا المتعلقة بالهجرة، وهي في الحقيقة لا تختلف معنى ومبنى، محتوى وشكلا، عن رسائل الفايس بوك والتويتر! رغم أنها موجهة من جهة رسمية رفيعة المستوى. مما يكشف، من جهة أولى، عن قلة التجربة لدى بعض موظفي ومستشاري الوزراء، الذين تم توظيفهم على أساس الماضي النضالي، لا الكفاءة العلمية والمهنية. ويظهر، من جهة أخرى، أن حزب العدالة والتنمية لم يستثمر في الوزارات التي في حوزته الأطر المغربية المتنوعة في التربية والتدبير والإعلام والقانون والاقتصاد وغير ذلك، سواء الموجودة داخل المغرب أم خارجه. عدم التناغم في التركيبة الحكومية: يطلع من حين إلى آخر نشاز ما في الحكومة الراهنة، مما يقر للعيان والأذهان أنها في حاجة ماسة إلى مزيد من التوافق والتناغم العقلاني، لا التراضي السياسي والبرغماتي. وهذا أمر جد عادي، بالنظر إلى طبيعة الأحزاب المشكلة للتحالف الحكومي، إذ تنحدر معظمها من أيديولوجيات متباينة (إسلامية، يسارية، يمينية قومية)، ثم إن جلها باستثناء حزب العدالة والتنمية سبق له وأن شارك في حكومات سابقة، مما يعمق الشرخ بين هذه الأطراف غير المتجانسة، فيترتب عن ذلك نوع من التنافر واللا انسجام في التعاطي مع العديد من الملفات، كالتعليم والإعلام والقضاء وما إلى ذلك. بل وأكثر من ذلك، إن حزب العدالة والتنمية صار يتأثر مع مرور الأيام برؤية الأحزاب الأخرى، خصوصا فيما يتعلق بمحاربة الفساد واقتصاد الريع وإصلاح الإعلام وغير ذلك! التسرع في إطلاق المشاريع: ما يسترعي الانتباه أن عمل الحكومة الحالية ينطبع بالتسرع في إطلاق الكثير من المشاريع والمبادرات، وهذا عمل جيد ووجيه، غير أنه سرعان ما تتراجع الحكومة بشكل غريب ومباغت عما أطلقته، إما عن طريق إلغائه المطلق، أو بغرض إعادة النظر فيه! فهي بهذا الأسلوب المستغرب تتقدم خطوة إلى الأمام، لتتراجع خطوتين إلى الوراء! مما يضع أكثر من علامة استفهام على طبيعة الأداء الحكومي. وهذا ما ينطبق على العديد من المبادرات الحكومية، كلائحة إكراميات النقل، وملف اقتصاد الريع، ودفتر التحملات المتعلق بالإعلام، وحصانة العسكريين، وقضية مدرب المنتخب الوطني، وملف الشخصيات الفاسدة، وغير ذلك. ويظهر إلى حد الآن أن تعاطي الحكومة مع هذه القضايا محكوم بالبطء والتردد والغموض، مما يجعل الشعب المغربي يتساءل عن الأسباب الخفية التي تقف وراء ذلك. منطق إرضاء القصر: إن علاقة الحكومة الحالية مع مؤسسة القصر تنبني على أساس إرضاء شخص الملك، لا على أساس العمل وفق القوانين الدستورية الجديدة، التي تحدد بوضوح تام مهام كل جهة وهيئة. بمعنى أن أي مشروع أو إصلاح تروم الحكومة تنزيله على أرض الواقع، لا يتم إلا إذا وافق عليه القصر، وإذا لم يوافق عليه فسوف يصبح في خبر كان. وأثناء الحديث عن القصر لا يقصد بذلك الملك فحسب، وإنما يقصد بالدرجة الأولى المستشارون الذين باتوا يشكلون حكومة الظل والكواليس! مما يقلص من طموحات الحكومة الحالية، التي كلما طرحت مبادرة جريئة للإصلاح، إلا وتعرضت لعراقيل مفاجئة لم تضعها في الحسبان. ضغط الشارع: إن الشعب المغربي الذي عانى طوال أكثر من نصف قرن من التهميش والاضطهاد والفقر، لم يعد يقوى على الصبر والتجلد أكثر، لا سيما في زمن الربيع العربي الذي أسقط أسطورة الحاكم المستبد، وكسر حواجز الخوف والرُّهاب، فما كان عليه إلا أن يراهن على حزب العدالة والتنمية، الذي كان يتحدث بلسان حال المستضعفين، وبمجرد ما تمكن هذا الحزب من اكتساح المشهد السياسي المغربي، ظن الجميع أنه قاب قوسين أو أدنى من التغيير والازدهار، دون أن يفكر في أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة! وأن الحكومة الجديدة ورثت تركة نصف قرن من الفساد والاستبداد والتجويع، وفي مرحلة تاريخية حساسة تحاصرها الأزمات من كل حدب وصوب. لذا فإن ضغط الشارع يزيد الطين بلة، وبطء الأداء الحكومي يصعد من سخط الشعب وتذمره، فهل سوف يفلح السيد رئيس الحكومة في أن يمسك العصا من الوسط، وينجح في إدارة الأزمات وتحقيق التوازنات؟ مناورة المعارضة الشرسة: يتذكر الجميع أن المعارضة البرلمانية دخلت هذه المرحلة السياسية الجديدة بخطة الهجوم! وهي لا تُفوّت أية مناسبة لأن تمارس نقدها المبتذل للحكومة، الذي وصل في أحايين كثيرة إلى حد التجريح والتسفيه والاتهام. والغريب في الأمر، أنها شرعت في تنفيذ هذا الأسلوب الهجومي قبل أن تتسلم الحكومة مهامها بشكل رسمي، وقبل أن تعرض البرنامج الحكومي، وقبل أن تقدم المشروع المالي..! مما يثبت أن العديد من الأسئلة والمبادرات التي تتقدم بها المعارضة ليس حبا في عيون الشعب، أو خوفا على مكاسب الوطن وخيراته، وإنما سعيا إلى استرداد شعبيتها المتردية، وتلميع صورتها السلبية لدى الرأي العام الوطني، غير أن ليس كل ما يلمع ذهبا! كما يقول المثل. وقد تمكنت المعارضة بذلك من بعثرة الكثير من أوراق الحكومة، وحَمْل فئة من المواطنين على التشكيك في قدرتها على تحقيق ما وعدت به في برامجها الانتخابية. ازدواجية الخطاب: أثناء القيام بمقارنة أولية بين ما كان عليه حزب العدالة والتنمية عندما كان يتخندق في المعارضة، وما صار إليه وهو في الحكومة، ندرك أن ثمة تراجعا ما عن الكثير من المبادئ التي كافح من أجلها الحزب منذ أكثر من عقدين من الزمن. مما يجعله يقع في الخطاب المزدوج الذي يتجلى في العديد من المواقف، كمسألة تخليق الفضاء العام والإعلام والإدارة وغيرها، ليس من خلال اللباس والطقوس، وإنما من خلال التعاطي الصارم مع مختلف قضايا الفساد، كالرشوة والمحسوبية والتملص الضريبي والاحتكار الاقتصادي، وهلم جرا. ومهزلة التعامل السخيف مع القضية الفلسطينية أثناء مؤتمر الحزب الأخير، والتنكر لملف الشبيبة الإسلامية وذلك بسبب حسابات تاريخية وشخصية، وغير ذلك من المحطات التي تقتضي التروي وإعادة النظر. الإكراه الاقتصادي: اللافت للنظر أن معظم الحكومات التي تناوبت على إدارة شؤون البلاد، كانت تتذرع دوما بالتحديات الاقتصادية والمالية، حتى صار هذا الأمر بمثابة "موضة" وتقليد في كل البرامج الحكومية والقوانين المالية. لذلك تسعى أية حكومة منذ البداية في تنفيذ سياسة التقشف والترشيد المالي، وهذا ليس عيبا أو مساءةً. غير أن العيب هو أن تُستنزف طاقة هائلة في التقشف، في حين أن أموالا طائلة وخيالية تُسرق أمام الملأ، أو تُبذر في أتفه الأمور، أو تُصرف على من لا يستحقها! وهذا ما يسري كذلك على الحكومة الحالية التي تظل مكتوفة الأيدي إزاء هذا الوضع، فبدل ما تُفعّل المشاريع التي راهنت عليها وهي في المعارضة، كالضريبة على الثروة وصندوق الزكاة وتوظيف المعطلين وغير ذلك، فإنها أثقلت كاهل المواطنين الضعاف بسحب دعم المحروقات، وتبرير اقتصاد الريع، وتشديد قوانين البناء، وعدم مراقبة سعر السوق، وحدث ولا حرج! هذه الأسباب كلها، إذا ما استمرت، سوف تقود الحكومة الحالية إلى النفق المسدود، حيث لا يمكن التراجع إلى الوراء، قصد إصلاح ما أفسده الدهر، أو ترقيع ما يمكن ترقيعه من الثقوب والاختلالات، لذلك فإن هذه الحكومة بصفة عامة، وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمها بصفة خاصة، أمامها فرصة تاريخية لأن تتأمل نفسها وأداءها في مرآة الشعب، وتراجع أوراقها القديمة والحديثة، وتقيم عملها منذ أن تسلمت زمام الحكم إلى اليوم، فتحاول الاستمرارية في بعض ما أنجزته من مشاريع وما قدمته من مبادرات، وتتخلص من منطق الوصاية الممارس عليها، وتتجاوز أسلوب الإرضاء الذي يطبع الكثير من مواقفها. لأنه أثناء أُزُوف ساعة المحاسبة الحقيقية، لا أحد سوف يرحمها، سواء أتعلق الأمر بالقصر أم بالشعب أم بالمعارضة أم بالتاريخ! سيناريوهات المرحلة القادمة.. إن الوضعية الراهنة تضع هذه التجربة الحكومية الفتية أمام أربعة سيناريوهات أساسية، وهي كالآتي: البقاء على الوضع الحالي: وهو وضع يتسم تارة بالتعامل الغامض مع ملفات الفساد، والتعاطي البطيء مع قضايا الإصلاح، مما يسحب البساط من تحت أقدام الحكومة، فتفقد بالتدريج الشعبية التي كانت تتمتع بها قبل الانتخابات، وسوف يكون مآل حزب العدالة والتنمية، إن لم يتخذ الإجراءات اللازمة والعاجلة، نفس ما آل إليه حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي دخل تجربة التناوب في 14 مارس 1998، فخرج منها مقصوم الظهر، إذ تمت مخزنته إلى حد النخاع، وتدجين العديد من مناضليه، الذين انساقوا خلف سراب الرفاهية المفاجئة والاغتناء غير المشروع على حساب تاريخ الحزب ونضاله. وما حزب العدالة والتنمية عن ذلك ببعيد، حيث بدأت بعض شخصياته الشبه "كاريزمية" تندمج في إيقاع السيمفونية الرسمية، وراح يتضح أن السيد بنكيران سوف يصبح بعد ولاية حكمه (إن هي استمرت!) مجرد شخصية في خبر كان، لا يتم ذكرها إلا أثناء الحديث عن "كرونولوجيا" الحكومات التي تناوبت على حكم المغرب. ويبدو أن الفرصة ما زالت سانحة لحزب العدالة والتنمية، حتى يصحح مساره المعوج قبل أن ينزلق إلى درجة اللا عودة. إمكانية التعديل الحكومي: يروج من فينة لأخرى أن تعديلات حكومية تلوح في الأفق، مما يميط اللثام عن أن ثمة تنافرا ما ينغص سير العمل الحكومي، أو أن بعض الوزراء والكتاب ليسوا في مستوى المسؤولية التي أنيطت بهم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل سوف تؤتي أية تعديلات حكومية أكلها أمام الاختلاف الجذري العميق الذي يعتري التركيبة الحكومية، سواء أقترن الأمر بالرؤية أم بمنهج العمل أم بالتاريخ الأسود لبعض الأحزاب؟ لذلك فإن حزب العدالة والتنمية يبدو اليوم أمام تحدٍ من عيار ثقيل، لا سيما وأنه كان يطمح منذ البداية جادّا إلى اجتثاث جذور الفساد، وإذا بجيوب الفساد توجد في بعض أركان الحكومة! وإذا ب "العفاريت والتماسيح" تطلع له من كل حدب وصوب، فلا تنفع معها سُبحة السيد عبد الإله بنكيران، ولا وصفات وأوراد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية! على هذا الأساس، سوف لن يشكل أي تعديل حكومي إلا مجرد ذر للرماد في العيون ولو لفترة معينة، لأن التعديل الحقيقي يبدأ من مواجهة الفساد الداخلي الذي راكمته الكثير من المؤسسات والأحزاب المغربية التقليدية، التي منها من يشارك في التشكيلة الحكومية الراهنة، ومنها من ينتصب في صف المعارضة. اعتماد منطق إرضاء القصر: رغم أن الدستور المغربي الجديد يمنح رئيس الحكومة العديد من الصلاحيات، غير أنه يظهر إلى حد الآن أن حضوره ذا طابع شكلي، وأن الملك هو الذي يتحرك في كل اتجاهات الوطن مشيدا وبانيا، لأنه لن ينتظر الحكومة حتى تستفيق من رقادها وتتخلص من مشاكلها الداخلية المتنوعة، لتشرع في التعاطي مع مشاكل المغاربة وهمومهم. لذلك فإن الحكومة تبدو أمام جهود الملك وتحركاته لا معنى لها! ثم إن منطق الإرضاء لما هو فوقي، الذي تسلكه الحكومة منذ انطلاقها الرسمي، ويظهر في معظم تصريحات السيد رئيس الحكومة وخطبه، إن دل على شيء، فإنه يدل على أن هذه الحكومة ليست في مستوى النقاش الجاد مع الملك كما كان ينتظر الشعب، بل وكما كان ينتظر الملك نفسه، الذي بعث أكثر من رسالة صريحة أو مرموزة تبين عدم رضاه عن عمل الحكومة. هكذا فإن قسما عظيما من الشعب المغربي صار يعول على الملك أكثر مما يعول على الحكومة أو الأحزاب أو المنتخبين، ليس لأنه يملك سلطة القرار، وإنما لأنه يتمتع بقابلية العمل والإسهام. سيناريو الانسحاب: وهو أن يعلن حزب العدالة والتنمية انسحابه من الحكومة التي يقودها، وذلك لأن المناخ العام الذي يحكم عمل الحكومة لا يسمح بأن يُنزل خطة الإصلاح على أرض الواقع، لأن هناك الكثير من التحديات السياسية والمالية التي تحول دون ذلك، بل وثمة العديد من "لوبيات" الفساد المتحالفة التي تعشش في معظم القطاعات الحيوية، كالاقتصاد والقضاء والأمن والإعلام، وغير ذلك. ولعل سيناريو الانسحاب هذا قد يجعل الحزب يوجه رسالة قوية إلى جميع الأطراف، ويثبت بأن الظرفية الحالية غير ملائمة لتحقيق نموذج إصلاحي متوازن، يُمكّن المغرب من الخروج من مستنقع الفساد الآسن، وهكذا سوف يحمي كرامته ويسترد شعبيته التي بدأت ترجع القهقرى. لكن هل يملك السيد رئيس الحكومة الجرأة الكاملة، ليس لأن يعلن الانسحاب وتسليم مفاتيح الحكم للملك، وإنما لأن يفكر جادا في هذا السيناريو الخطير؟! لا سيما وأنه أحيانا ما تُسرب بعض وسائل الإعلام تصريحات لوزراء يهددون بالانسحاب، وأكثر من ذلك، فإن ثمة مؤشرات على أن معارضة ما بدأت تتشكل من داخل حزب العدالة والتنمية، إن لم تمارس انشقاقا عن الحزب – الأب، فإنها سوف تكون بمثابة شوكة في حلقوم التيار المحافظ المهيمن داخل الحزب. خلاصة القول، إن هذه المقاربة تُكتب في سياق تاريخي حساس، يحتاج فيه المغرب إلى كل أبنائه ومكوناته لأن يتعاونوا على الدفع بعجلة البلاد إلى بر الأمان، وهذا لن يتأتى إلا بالتقارب الأيديولوجي عن طريق التنازل ما أمكن عن المصالح الحزبية والأيديولوجية الضيقة لصالح الوطن، الذي ينتظر منذ أكثر من نصف قرن أن يُنصف وتُرد له كرامته وحقوقه. فهل سوف تكون الحكومة الراهنة في مستوى هذا التحدي، وفي مستوى هذه اللحظة التاريخية المتميزة والمحرجة؟ وهل سوف نساهم جميعا في إنجاح هذه الفرصة الذهبية التي لم ولن تتسنّى للمغرب على الإطلاق؟ (*) باحث وإعلامي مغربي مقيم في هولندا، يهتم بقضايا الإسلام والغرب