حاول أحد المفتونين بالثورات العربية أن يعلم ببغاءه المدلل ثلاثية الميادين - عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية - لكن الببغاء المتمرد كان ينفش ريشه في كل مرة ويرفض تكرار الأقانيم الثلاثة في إصرار عجيب، عندها أمسك صاحبنا بعصا رفيعة وأوسع الطائر الملون ضربا، لكن الغريب في الأمر أن ريش الغراب كان ينتفض في كل مرة فوق منقار شق عصا الطاعة ونسى الكلام، وعندما فاض كيل الرجل ألقى بالببغاء العنيد أرضا بغية قتلة، وحين لم يَرد الغراب على صفعته بريشة أو أنَّةٍ، ظن الرجل أن الببغاء قد غادر ميادين الحياة، ورحل إلى ميادين أكثر هدوءا وأقل ازدحاما. وفي الصباح عاد الرجل إلى ما تبقى من الببغاء ليحمله إلى أقرب حاوية، لكنه اندهش كثيرا حين سمع صوتا مكتوما في قن الدجاج يقول: "قل عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" اقترب الرجل من القن على أطراف أصابعه، فوجد العصا التي تركها في الليل إلى جوار غراب يحتضر بين مخالبه، واكتشف الرجل بعد أن وجد القن مليئا بجثث الدجاجات ضحايا الثورة أن الببغاء سهر الليل كله يعلم الدجاج الثورة على الفقر والعبودية والظلم، لكنه صبره كان ينفد حين تفشل الدجاجات البليدة في دفع ثمن البقاء في قن الأحياء، فيضربها فوق رأسها ضربة واحدة تنقلها من قن العبودية إلى رحابة الموت. من يستطيع اليوم أن يغرد في صباحات الميادين بنداءات حرية متمردة، أو يجرؤ على بيع خبز الحرية اليابس فوق أرصفة الميادين؟ من يمتلك شجاعة البوح بما يخالف من آراء أو رؤى دون أن يتعرض إلى سحل الثوار الغارقين في شهوة الثأر لشعارات الميادين من خرائطها؟ ومن يستطيع أن يمتلك رأسه في ظل جوقة من المرددين لشعارات لا يريدون إنزالها من فوق اللافتات والجدران واللوحات المعدنية إلى حيز التنفيذ والفعل؟ كيف يتحول الثوار من بائعي حرية جائلين إلى منظرين فاشيين لا يبجلون الآخر ولا يحترمون الصوت الآخر ولا المبدأ الآخر ولا يعترفون بأي آخر؟ وكيف تحملنا شعارات الميادين إلى أسمى آفاق الحريات، وتنزل بنا المخاصمات الفكرية والثارات الانتخابية إلى هذا الدرك الأسفل من اللجج الفكري العقيم؟ ألا فليعلم رافعوا حراب الشعارات في وجه الفئة التي رفضت الصهيل بألفاظ تفقد معناها تحت وطأة التخوين والعمالة والممالأة أنهم يبيعون شعاراتهم بخسا في أسواق الميادين التي ترفض الصوت الواحد والرأي الواحد لأنها تحب أصوات الباعة الجائلين الذين يروجون لسلعهم بعباراتهم الأخاذة دون أن يمسكوا بأيدي المارة ويجبرونهم قسرا على تذوق طعم الحرية. الحرية يا سادة ترفض الوصاية وإن كانت من رواد الميادين، واستخدام سلعة الحرية في الضغط على المفكرين من أجل بيع كلماتهم نوع من الدجل الرخيص لأنه سينتهي بالمفكرين من مداهنة نظام هَبِرَ على حليب المديح وخبز الكلمات المنقوعة في العسل والسكر إلى مديح جيل من الثوار أنصاف المثقفين غير المعصومين من تجاهل الشعارات رغم المداومة على ترتيلها آناء الليل وأطراف النهار. لن يتعلم الببغاء حرية الفعل وهو مقيد في مخالب نسر جامح يا سادة، ولن يمارس حرياته التي كفلتها كافة الديمقراطيات تحت تهديد عصا الشعارات وأسلحة التخوين البيضاء، وإلا سينقلب من قمع إلى فاشية لا تخفي سوأتها على كل ذي بصيرة. لنفسح أيها السادة مكانا وسط الميادين لطائر قرر أن يعمل عقله قبل أن يرفع عقيرته بشعارات تفقد معناها مع الأيام كي لا يتحول إلى ببغاء فاشي لا يملك إلا الترديد والعصا فتفقد البلاد حرياتها باسم الحرية، ولنسمح لرئة أخرى لا تنقبض وتنبسط بهتافاتنا المليونية ببعض الهواء الحر في زمن الحريات. يقول أنطوان دي سان: "لا أعترف بحرية غير حرية العقل." [Share this]