هل تحتاج الثورات العربية التي حدثت في عام ألفين وأحد عشر إلى وقفة تأمل لقراءتها من جديد؟ الإجابة ربما كانت نعم، لكن ربما كان القليلون في العالم العربي يفكرون في هذا الاتجاه، إذ المهم -كما قال أحد الكتاب في تقدير كثير من الاتجاهات السياسية في العالم العربي هو استغلال الوسائل التي توصل القوى المختلفة إلى السلطة دون اهتمام بالقيم التي يهدف المجتمع إلى تحقيقها من خلال إنشاء أنظمة ديموقراطية، وذلك ما جعلني أتوقف عند بعض الكتابات الغربية التي حاولت قراءة ما حدث في الثورات العربية، وأتوقف في البداية عند المقالة القيمة التي كتبتها 'آن أبلبوم' والتي حاولت فيها أن تقارن بين ما حدث في العالم العربي في عام ألفين وأحد عشر وبعض الثورات التي حدثت في أوروبا خلال القرن العشرين، أيضا القرن التاسع عشر ونراها تقول في البداية يجب أن يخضع تقويم الثورات بحسب ظروفها الخاصة، وتشير هنا إلى إن الكثيرين حاولوا أن يقارنوا بين ما حدث في تونس وليبيا ومصر وما حدث في براغ وبرلين قبل عقدين من الزمان وهي الفترة التي شهدت الثورة التي وجهت ضد النظام الشيوعي في دول أوروبا الشرقية، ونراها تقول على الرغم من التشابه بين الثورات العربية والثورات الأوروبية فإن هناك اختلافات ظاهرة في المحركات والأهداف، ذلك أن الثورات الأوروبية حركها هدف واحد وهو بداية تهاوي النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق، لكن الثورات العربية التي اختلفت من قطر إلى قطر كانت محركاتها اقتصادية وسكانية وتقنية وهي في نظرها تشبه ثورات عام ألف وثمانمئة وثمانية وأربعين في أوروبا أكثر من كونها تشبه الثورات ضد الأنظمة الشيوعية، إذ كانت الثورات الأوروبية في تلك المرحلة في نظرها تطالب بالاستقلال من النمسا التي تعرف في الوقت الحاضر بألمانيا،وقد كانت ألمانيا في ذلك الوقت تريد أن توحد كل الناطقين بالألمانية في إطار دولة واحدة، وأما في فرنسا فكان الهدف هو إسقاط الملكية بينما كان الهدف في دول أوروبية أخرى هو صراعات عنصرية وعرقية، وترى 'آن' أن الواقع في العالم العربي يختلف تماما خاصة أن الاختلاف في توجهات الدول العربية قد يكون أكثر أهمية من التشابه بينها في أسلوب الثورات،وقد ظهر ذلك جليا من وجهة نظرها في أن معظم الثورات العربية تأكد فشلها بعد أن ثبتت دكتاتوريات جديدة وتبين أن الديموقراطيات لا تعمل في الواقع العربي لأن الاتجاهات السياسية تهتم فقط بآلية الديموقراطية ولا تهتم بقيمها،وكما حدث في ثورات عام ألف وثمانمئة وثمانية وأربعين في أوروبا إذ تبين أن التغيير إلى النظام الديموقراطي في العالم العربي قد يحتاج إلى مساحة كبيرة من الوقت ولا يقتصر فقط على ثورات شعبية مثل ثورات الربيع العربي، ويبدو ذلك واضحا على نحو الخصوص في تطور الأحداث الجارية في مصر في الوقت الحاضر، وهناك أسباب مختلفة تحتم التركيز على مصر في كل ما يحدث في العالم العربي، ذلك أن مصر هي المجتمع العربي الذي ظل على مدى أكثر من مئة وخمسين عاما في مركز الصدارة في العالم العربي، وعلى الرغم من التأثيرات الثقافية والاجتماعية لهذا المجتمع على سائر الدول العربية، فما زالت هناك أسئلة تدور حول ما إذا كانت مصر قادرة على بناء نظام ديموقراطي حديث يمكن أن تستفيد منه بقية الدول العربية، وذلك ما حفز الكاتب 'مايكل ماندلبوم ' البروفسور في جامعة جون هوبكنز الأمريكية إلى أن يكتب مقالا يتساءل فيه إن كان بإمكان مصر أن تصبح دولة ديموقراطية، ولا أريد في الواقع أن اتبع الخط الذي اتبعه هذا الكاتب من أجل الإجابة على هذا التساؤل، بل أريد أن أبحث في المسيرة المصرية بصفة شاملة لأتعرف على الطبيعة السياسية للمجتمع المصري، ولا بد هنا من الرجوع إلى نحو مئة وثمانين عاما إلى عهد محمد علي باشا الذي أسس أسرة ملكية في مصر وحاول في الوقت ذاته أن يجعل من أرض الكنانة بيئة حداثية تشبه ما رآه في ذلك الوقت في فرنسا، وقد نجح محمد علي باشا إلى حد كبير، إذ بدأت مصر تتحول نحو الحداثة التي أخذت تتطور في العقود التالية سواء كان ذلك في مجال الأدب أو الفنون أو العمران أو الصناعات وبدأت كثير من الدول العربية تتطلع إلى مصر بكونها بلدا حديثا يطمح الجميع لأن يكونوا مثله، ولكن على الرغم من ذلك فقد فشل النظام الملكي في مصر في إقامة النظام الديموقراطي السليم على الرغم من المظاهر الديموقراطية الحزبية التي ظهرت في مصر خلال مراحل الحكم الملكي المختلفة، ذلك أن النظام السياسي في مصر عمل من أجل تقسيم المجتمع إلى أقلية من النبلاء تستأثر بالمال والسلطة وغالبية من الفلاحين الفقراء لا تحصل إلا على أقل القليل. ولم يكن هذا الواقع عنيفا في أول أمره بسبب قلة السكان في مصر في تلك المراحل، لكن مع تضاعف عدد السكان وازدياد معدلات الفقر بدأ الكثيرون يحسون بأن النظام القائم قد لا يكون مناسبا للمستقبل المصري، وكان ذلك هو السبب الرئيسي الذي حرك ثورة يوليو عام ألف وتسعمئة واثنين وخمسين، وعلى الرغم من أن هذه الثورة كانت على وعي كامل بالمظالم فلا شك أن الفكر الذي كان مسيطرا على العالم في ذلك الوقت وهو الفكر الاشتراكي قد حجب الرؤية الصحيحة لمتطلبات التغيير في مصر، ومع عدم قدرة النظام السياسي في تحقيق آمال الشعب توجه النظام القائم في مراحله المختلفة في عهد السادات وحسني مبارك ليصبح نظاما قمعيا لا تستفيد منه إلا قلة من المنتفعين الاقتصاديين، وذلك ما حرك الجماهير من أجل القيام بالثورة الشعبية التي أطاحت نظام حكم الرئيس حسني مبارك، ويبقى السؤال قائما وهو هل إطاحة مبارك كانت البداية لدخول مصر في عهد جديد، وهل ستصبح مصر بعد ذلك دولة ديموقراطية؟ نلاحظ الآن أن مراكزالنفوذ أصبحت مقسمة بين المجلس العسكري وبين حزب الحرية والعدالة الإسلامي، وكما هو واضح فإن المجلس العسكري يعيش حالة شلل كاملة لأنه لا يريد أن يخرج من ردائه القديم ويدرك أنه لا يمثل مصر الثورة في أي صورة من الصور، وهنا لا بد أن نتوقف عند الفوز الكاسح الذي حققه حزب الحرية والعدالة في الانتخابات البرلمانية، وهو فوز كان متوقعا لأن الساحة المصرية في هذه المرحلة كانت خالية من أي منافسة، ولا شك أن الوجود الإسلامي في مصر كما هو في أي بلد عربي آخر، وفي ظل غياب نظام سياسي مقنع للناس فمن الطبيعي أن يكون المجال مفتوحا أمام أحزاب مثل حزب الحرية والعدالة، التي تستفيد من آلية الانتخابات من أجل تحقيق فوزها الكاسح ولكنها قد تجد صعوبة في قبول مفاهيم التعددية السياسية التي قد لا تتوافق مع توجهاتها الأيديولوجية، وبصفة عامة نجد أن المشكلة القائمة في مصر في الوقت الحاضر تنحصر في حقيقة أن المنافسة السياسية تتجه نحو السيطرة على السلطة أكثر من كونها تتجه إلى إقامة نظام الدولة، وهو نظام في منتهى الصعوبة في هذه المرحلة من التطور السياسي في مصر، لأن نظام الدولة يحتاج إلى أرضية اقتصادية عريضة تتحقق بها مصالح المواطنين، ومع التكاثر في عدد السكان في مصر قد تجد السلطة صعوبة في هذه المرحلة في تحقيق هذا الهدف وبالتالي فإن أقصى ما يحققه المواطنون من نجاحات سياسية سوف ينحصر في مدى اقتراب البعض من السلطة والحصول على الامتيازات التي تحقق النجاح للبعض، وبصفة عامة كما قال 'مايكل ماندلبوم' لا يكفي أن يتحرك الناس في أعمال جماهيرية واسعة النطاق من أجل تحقيق أهداف الديموقراطية لأن الديموقراطية تحتاج في الأساس إلى ديموقراطيين من بين أفراد الشعب وطبقة الحكام وهذا هو العنصر الغائب في سائر الثورات العربية.