أفرزت الانتخابات الإقليمية التي أجريت في المحافظات الأندلسية بإسبانيا في نهاية الأسبوع الماضي حالة أخرى من الحالات التي تحيل على احتمالات متعددة حينما لا تتكلم صناديق الاقتراع بلغة حاسمة. وبعد أن كانت استطلاعات الرأي تومئ إلى أن الكفة سترجح لصالح الحزب الشعبي إسوة بما حدث في انتخابات 20 نوفمبر التشريعية التي أجريت على صعيد وطني، قرر الناخبون الأندلسيون شيئا آخر، وهو صنع خريطة غير حاسمة، ليس فيها غالب يحوز الأغلبية ويشكل الحكومة، ولا مغلوب يركن إلى المعارضة ريثما يحسن أحواله مع الرأي العام. وكان الحزب الاشتراكي مستعدا لقبول التنحي لصالح خصمه اليميني بعد ثلاثين سنة من ممارسة السلطة. وكان التناوب الذي تمخضت عنه انتخابات نوفمبر الماضي قد هيأ الذهان لتقبل حصة مكملة لفاتورة العقوبة التي آن للاشتراكيين أن يؤدوها نتيجة الأزمة الاقتصادية التي انفجرت بين أيديهم بعد ولايتين تشريعيتين. لكن الذي حصل هو أن الأندلسيين لم يجعلوا غضبهم على الاشتراكيين يتحول إلى هدية للشعبيين. وجاءت النتيجة هكذا: 50 مقعدا للحزب الشعبي، و47 للحزب الاشتراكي، و12 لليسار الموحد. أي أنه ليس لأي من الحزبين الكبيرين أن يعتبر أن الشعب رسم له الطريق إلى الحكم أو المعارضة. وهذه خريطة قلقة مفتوحة على احتمالين على الأقل. إما ائتلاف بين الحزبين الكبيرين الحائزين على أكبر الأصوات أي الشعبي والاشتراكي، مثل ما هو حاصل في بلاد الباسك حيث يحكم الاشتراكي بالائتلاف مع الشعبي، وإما ائتلاف بين الاشتراكي واليسار الموحد. وقد مد خافيير أريناس يده للاشتراكيين من أجل تكرار تجربة الباسك. ولكن غرينيان رئيس الاشتراكيين في الأندلس، أعرض عن هذا الطرح ربما بسبب أن هاجس وقف الميول الانفصالية الذي يعمل عمله في الإقليم الشمالي، بغية قطع الشهية لدى الحزب الوطني الباسكي، لا يوجد مثله في الأندلس، بحكم أن كلا من الاشتراكي والشعبي حزبيان يؤيدان صيانة الوحدة السياسية للدولة الإسبانية وهذا ما غلب عن الاشتراكيين النظرة الإيديولوجية. وعملا بذلك فإن الاشتراكيين مالوا منذ اللحظات الأولى إلى قراءة أرقام يوم الأحد على أساس أن الأندلسيين صوتوا لصالح اليسار بنسبة راجحة، إذ منحوا 1,5 مليون صوت للحزب الاشتراكي و400 ألف صوت لليسار الموحد. ( أكثر من 52 % من الأصوات لليسار بما يقرب من مليوني ناخب، في مقابل 39,52 %). وهم بهذا الموقف اختاروا رفقة صعبة لأن اليسار الموحد بنى مواقفه على التشويش على الاشتراكيين، وكان " الأمير الأحمر " - كما عرف الزعيم التاريخي للشيوعية الأندلسية خوليو أنغيطا - قد أيد أثنار على حساب غونثالث في منتصف التسعينيات، لمجرد المشاغبة في رأيي. وهناك نقاط كثيرة تباعد ما بين سياسة كل من الاشتراكي العمالي واليسار الموحد في الشؤون الاقتصادية والخارجية سواء على صعيد الأندلس أو على الصعيد الوطني، حيث يمثل اليسار الموحد 11% في البرلمان المركزي. ومنذ البدء تعتبر نتيجة الأندلس نكسة لراخوي، لأنه كان يريد أن يتعلل بأن يكون فوزه في الأندلس علامة قوة يعزز بها وضعه إزاء بروكسيل، وفي عين المستشارة ميركل الزعيمة البارزة في تحالف الأحزاب الشعبية الأوربية، وصاحبة الكلمة الفصل في السياسات الاقتصادية للاتحاد الأوربي. فبهذه النتيجة وخصوصا بسبب اختيار الاشتراكيين التحالف مع اليسار في الأندلس ، ستكون هناك حكومات إقليمية رئيسية تهرب من قبضته، وهي كاتالونيا وأسطورياس والأندلس. الأولى لها وزن اقتصادي راجح، والأخيرة لها وزن ديموغرافي إذ بها من السكان ما يعادل النمسا أو السويد. و هذا الوضع يذكر بعدد من المفارقات، يحفل بها المشهد السياسي الإسباني، وهي تضع على المحك متانة المؤسسات، وكذلك حنكة النخبة السياسية، التي يكون عليها أن تجتاز اختبارات عصيبة فيما يخص الحكامة ومجابهة الأزمات بأدوات دولة القانون. إن ما أسفرت عنه انتخابات الأندلس يعتبر في حد ذاته درسا كاملا في العلوم السياسية. وهو يكشف مرة أخرى إسبانيا التعددية التي ليست مدريد هي المصدر الوحيد للقرار فيها. و هذا يشكل معادلة صعبة، يكون فيها أي رئيس للحكومة في وضع يشيب من هوله الولدان. وفضلا عما سبق فإن الناخبين الأندلسيين حجبوا عن الحزب الشعبي ما لا يقل عن 430 ألف صوت كانوا قد منحوه إياها في الانتخابات التشريعية العامة الأخيرة. أي أنه منذ نوفمبر إلى مارس فقد اليمينيون بالأندلس حصة كبيرة من الأصوات والحال أن حكومة راخوي لم تقترف بعد ما يوجب هذا العقاب. ولعل تصويت نوفمبر كان عقابا للحزب الاشتراكي كما أن حجب الأغلبية عن الحزب الشعبي الآن، يمكن أن يكون تعبيرا عن وفاء الناخب الأندلسي لهوية يسارية عمرت طويلا، إذ طالما كانت الأندلس خزانا لليسار.