توجه اليوم ما يزيد عن 25 مليون من أصل 35,7 مليون ناخب إسباني إلى صناديق الاقتراع في ظل أزمة اقتصادية خانقة وغير مسبوقة في إسبانيا الديموقراطية ،وتحت تأثير متغيرات إقليمية ودولية لم تتضح بعد معالمها وآفاقها. لأول مرة في تاريخ إسبانيا تجري الانتخابات التشريعية والمنظمة الانفصالية إيطا قد أعلنت وقفها النهائي للعمليات المسلحة واستعدادها للانخراط في العمل السياسي بالوسائل والطرق السلمية ومشاركة ذراعها السياسي في العملية الانتخابية. ولأول مرة عاشت إسبانيا انتخابات تشريعية معروفة النتائج تبوأ فيها الحزب الشعبي اليميني الصدارة في استطلاعات الرأي واكتفى الحزب الاشتراكي بمحاولة التخفيف من حجم الهزيمة وتلافي العودة بالفريق النيابي الاشتراكي إلى ما قبل الحكومة الاشتراكية الأولى سنة 1982. كذلك عرف المشهد السياسي الإسباني حضورا لافتا لأحزاب ليبرالية وطنية وجهوية جديدة تحاول تكسير الثنائية الحزبية. لم تكن نتائج الانتخابات الاسبانية مفاجئة وبغض النظر عن بعض الاستثناءات فاز الحزب الشعبي ب 186 مقعد في البرلمان(44 في المائة من مجموع الأصوات المعبر عنها) مسجلا بذلك أكبر انتصار حققه الحزب الشعبي منذ انطلاق الديموقراطية، وفي المقابل حصل منافسه الاشتراكي على نتيجة كارثية ب110 مقعد(24 في المائة) وهي أضعف نسبة يحصل عليها الحزب منذ ماقبل نصره الأول سنة 1982 مع فيليبي غونصاليص. تعطي هذه النتائج للحزب الشعبي الأغلبية الكافية لتشكيل الحكومة المقبلة بمفرده وتضع كل سلطات الدولة بين يديه، ومن المنتظر أن يسرع الحزب الفائز بتنفيذ أقسى الإصلاحات وأكثرها وقعا في الشهور الأولى من حكومته وقبل أن ينتبه الناخب الاسباني إلى استعجالية الإصلاحات وحتميتها بغض مهما كان لون الحكومة أوانتمائها "الإيديولوجي". وكان استطلاع الرأي الذي أنجزه المركز الإسباني للدراسات السوسيولوجية ونٌشرت نتائجه مع انطلاق الحملة الانتخابية قد تنبأ أن الحزب الشعبي سيفوز بالانتخابات وسيحصل على مابين 190 و195 مقعدا في البرلمان مقابل 116 و121 مقعدا لمنافسه الحزب الاشتراكي العمالي. معطى آخر جديد سجلته هذه الانتخابات يتعلق بانخفاض نسبة المشاركة مقابل انتخابات 2008 من 60 في المائة إلى مايفوق بقليل 57 في المائة الحالية أي بفارق 3 نقط عن سابقتها، ويعزو الملاحظين هذا الانخفاظ إلى حركة 15 ماي الشبابية التي تطالب بتجديد الديموقراطية وبكسر ديكتاتورية الثنائبة الحزبية. كما سجلت هذه الانتخابات صعودا ملحوظا لأحزاب وطنية حديثة التأسيس تنافس في تكسير المشهد السياسي الاسباني الذي طغت علية الثنائية خلال العقود السابقة، مقابل تراجع بعض الأحزاب الجهوية التي غالبا ما تراهن على فوز أحد الحزبين بأغلبية نسبية تسمح لها بلعب دور المفتاح في التشكيلة الحكومية وفي السياسات الوطنية باستثناء التجمع الوطني الكطلاني الذي ضاعف نتائجه من 10 مقاعد إلى 16 مقعد ودخول حزب أمايو الباسكي ب5 مقاعد تسمح له بتشكيل فريق نيابي والمفارقة أن هذا الأخير بعتبر دراعا سياسيا للمنظمة الانفصالية إيطا. كذلك يعرف المشهد الجديد عودة قوية لحزب اليسار الموحد وحصوله على 11 مقعد مقابل مقعد واحد في البرلمان السابق وحصول حزب التقدم والوحدة المنشق عن الحزب الاشتراكي على 5 مقاعد تمكنه من تشكيل فريق برلماني لأول مرة. الجديد في نتائج هذه الانتخابات ليس الفوز الساحق للحزب الشعبي وحصوله على الأغلبية المطلقة فكل استطلاعات الرأي كانت تؤكد مثل هذه النتائج وبعضها كان يتنبأ بأكثر من ذلك، لكن الجديد هو عودة اليسار الوطني والجهوي بقوة وبالخصوص تحالف اليسار الباسكي الذي يعتبره بعض المتتبعين بمثابة دخول المنظمة الانفصالية إلى البرلمان، كما يعرف البرلمان الاسباني وبالنتائج المعلنة تعددية غير مسبوقة من حيث عدد الأحزاب التي استطاعت تجاوز خط العبور إلى البرلمان، الجهوية منها والوطنية وبالخصوص الأحزاب اليسارية التي استفادت من غضب جزء مهم من الناخبين التقليديين للحزب الاشتراكي, وهو الفسيفساء الذي سيجعل من البرلمان الحالي أكثر حيوية من سابقيه، كما تسجل هذه الانتخابات (في انتظار التأكيد) ولأول مرة في تاريخ الديموقراطية الاسبانية دخول حزب اليسار الأخضر إلى البرلمان بمقعد واحد مقابل الحضور المتميز للخٌضر في أغلب البرلمانات الأوروبية. كما سبق وأن أشرنا لم تكن هذه النتائج مفاجئة أو بالأحرى كانت هزيمة الحزب الاشتراكي منتظرة بعد أن تراجعت شعبية هذا الحزب بشكل غير مسبوق بسبب الإجراءات التقشفية التي اتخذتها الحكومة الاشتراكية لمواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عصفت بالبلاد وبكل دول الوحدة الأوروبية منذ سنة 2008 وارتفاع معدل البطالة بشكل مهول وغير مسبوق بلغ إلى 21في المائة وبنسبة 45 في المائة في صفوف الشباب و48 في المائة في صفوف المهاجرين وفاقت 50 في المائة في صفوق المهاجرين المغاربة. بالرغم من صعوبة التكهن بكل القرارات والسياسات التي سينهجها الحزب الشعبي في الشهور القادمة لكن أغلب المتتبعين يتفقون أن الحزب الشعبي قد استفاد من بعض أخطائه الفارطة وسيحاول على مستوى السياسات الداخلية أن يتلافى الاستعمال المٌفرط والفج لأغلبيته المطلقة وسيحاول حشد دعم الأحزاب الجهوية اليمينية ونهج سياسة الحوار مع الحزب الاشتراكي فيما يتعلق بالقرارات الكبرى والاقتصادية منها بالخصوص، كذلك الأمر بالنسبة لسياسته الخارجية التي ستعرف تحولا مهما تفرضه التحولات والتغيرات التي يعيشها جنوب المتوسط و المنطقةالمغاربية بالخصوص، وفي تقديري أن الحزب الشعبي لن يعيد الأسلوب الأرعن الدي ميز سياسة أثنار مع المغرب وسيحاول لعب دور أكثر إيجابية في تدبير المشاكل العالقة بين البلدين.