أصبحت تونس في الأسابيع الأخيرة قبلة بعض الدعاة المشارقة، حيث وجهت دعوة إلى الداعية عمرو خالد، وأيضا إلى الداعية وجدي غنيم. وإن كان الأول لم يتعرض لحملة رفض كبيرة فإن وجدي غنيم قد شكل حضوره في تونس صدمة بالنسبة إلى شق واسع من التونسيين، سواء النخب الحداثية أو مواطنين أو مجموعات من المجتمع المدني، بل مثلت زيارة غنيم سببا إضافيا في تعميق التوتر بين الحكومة والمعارضة وشخصيات ثقافية فكرية، رغم أن الزيارتين المشار إليهما ليستا في إطار رسمي وإنما بتأطير جمعياتي. وبعيدا عن وقع الصدمة وموقف الرفض القطعي من زيارة هؤلاء الدعاة وغيرهم، نعتقد أن هذه المسألة تجرنا إلى نوع من القراءة المتأنية والبعيدة قدر الإمكان عن التشنج. طبعا أسباب حدوث صدمة في صفوف الكثير من التونسيين كثيرة، لعل أولها أن تونس كانت ممنوعة على الدعاة، بل إن كتب الكثير منهم كانت تحجز ولا يسمح للناشرين بعرضها في معرض تونس الدولي للكتاب. ذلك أن النخبة السياسية الحاكمة قبل اندلاع ثورة 14 يناير كانت بالمرصاد لكل أطروحة دينية لا تتماشى مع قراءة الدولة للإسلام ولما تعتبره قراءة حديثة للدين. ومن ثمة فإن أبواب تونس أمام دعاة الدين الذين تمتلئ بهم الفضائيات الدينية كانت موصدة وبإحكام شديد. السبب الثاني قد يعود إلى السياق الذي وردت فيه زيارة وجدي غنيم، وهو سياق عرف بروز التيار السلفي وأعمال العنف التي طالت بعض الإعلاميين والمثقفين المناهضين فكريا للأطروحات السلفية. لذلك بدت زيارة داعية معروف بقبوله وموافقته على مسألة ختان الإناث وغير ذلك من الأفكار المتطرفة، وكأنها تنضوي ضمن خطة كاملة تهدف إلى فرض التيار السلفي فكرا ورموزا. لا شك في أن انزعاج النخبة الحداثية وكثير من الأطراف في المجتمع المدني من زيارة وجدي غنيم هو انزعاج مبرر ومفهوم باعتبار أنه يهدد التحديث في تونس ويعتدي - ولو رمزيا - على مكاسب حداثية تشمل المرأة ومسألة العلاقة بالدين، وهي مكاسب غالية جدا على التونسيين، أو لنقُل بأكثر دقة، شِق واسع من التونسيين. غير أن تجاوز مرحلة الصدمة والانزعاج والرفض المبدئي يتطلب التفكير في ما كشف عنه توافد هؤلاء الدعاة وتحديدا وجدي غنيم، ذلك أن الرجل لو لم يلقَ الاهتمام الجماهيري لما كان سيحظى بكل هذا الغضب والنقد والرفض. هناك حقائق لا ينفع القفز عليها، وهي أن آلاف التونسيين حضروا أمسيات وجدي غنيم الدينية، وهو ما يعني أن له ولغيره جماهير غفيرة في داخل تونس الدولة الوطنية الحديثة. وفي الحقيقة هناك نقطة تم التغافل عنها، وهي تأثير وسائل القنوات الدينية وتكنولوجيا الاتصال الحديثة، حيث إن وسائل الاتصال خارج سيطرة أجهزة الدول، ومن ثم فإن الكثير كان يتابع منذ سنوات هذه القنوات وينصت إلى برامج الدعاة فيها، خصوصا أن عملية مشاهدة هذه القنوات كانت ممارسة ثقافية معزولة، بمعنى أنه طيلة العقود الأخيرة عاش التونسيون فراغا دينيا بعد تهميش المؤسسة الزيتونية ورموزها ودولنة الشأن الديني، لذلك لم يكن من الصعب اختراق فئات من التونسيين ولو كانوا غير مقتنعين بكل الأفكار التي يعرضها هؤلاء الدعاة. والإيجابي في ما أظهرته زيارة وجدي غنيم أنها كشفت عن عمق الحاجة إلى استعادة الزيتونيين لدورهم وأن يدركوا أن واقع الحرية الجديد يستدعي أن يلعبوا دورا دينيا، خصوصا أن المؤسسة الزيتونية معروفة بثقافة دينية معتدلة، وهي في حاجة إلى إعادة إحياء كي تستعيد جاذبيتها السابقة. التجاوب الذي حصل مع هؤلاء الدعاة يعبر عن نوع من الهجرة نحو أفكار دينية أخرى مغايرة لخصوصيات البيئة الدينية التونسية. فالحل ليس في سياسة غلق الأبواب ولا في تحجير مشاهدة القنوات الدينية الأجنبية رغم استحالة ذلك. الحل يكمن بالأساس في شجاعة مواجهة الظاهرة وملء الفراغ الديني الذي تعيشه فئات واسعة من المجتمع بخلق إعلام ديني وطني بديل وبنشر معرفة دينية تتماشى مع مقاصد الشريعة والرؤية المجتهدة وخصوصيات العقل الديني والثقافي والحضاري التونسي.