تختلف زيارة هيلاري كلينتون إلى عواصم الشمال الأفريقي عن تلك التي قامت بها سلفها كوندوليزا رايس في الرمق الأخير لولاية الجمهوريين. غير أن الهاجس الأميركي في قضم مراكز النفوذ التي كانت حكراً على الأوروبيين لم يتغير، يشجعهم في ذلك أن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تجتازها أوروبا قللت من تطلعاتها نحو بلدان الحو ض الجنوبي للبحر المتوسط. الأميركيون طرحوا منذ سنوات خطة شراكة متنوعة وشاملة مع بلدان الشمال الأفريقي. كان الأمر يقتصر على المغرب وتونسوالجزائر في ظل النفور من الليبيين قبل أن تجري المياه تحت الجسور. وما من شك في أن التحولات التي تعرفها المنطقة تفسح في المجال أمام معاودة إحياء ذلك المشروع الذي تحكمت في صياغته أولويات يمكن دائماً إخراجها من الرفوف. ويبدو أن الإدارة الأميركية اليوم منشغلة بالتحولات الجارية، من منطلق استيعابها والتأثير فيها كي لا تخرج عن السيطرة. بخاصة أن دعواتها من أجل الديموقراطية أفرزت لاعبين جدداً يصعب أن تصنفهم في خانة الأعداء. وفي الإمكان التعاطي معهم بروح إيجابية، طالما أن سقف الطموحات لا يرتفع إلى المحظور. وبعد أن كان المنتسبون إلى التيارات الإسلامية يطرقون مسالك الممرات لإقناع الأميركيين بأنهم أشد حرصاً على توازن العلاقات، تأتي الوزيرة كلينتون بدورها لتبعث رسائل اطمئنان إلى الشركاء الجدد في عقر ديارهم. مغاربياً لن تسمع الوزيرة كلينتون نفس الشكاوى وإلقاء اللوم من طرف على الآخر. لكنها ستنصت بإمعان إلى المساعي المبذولة لإخراج المنظومة المغاربية من غرفة الإنعاش. ففي النهاية سيكون حوارها أجدى مع منظومة متكاملة. وما يعنيها أن توازن العلاقات في إطار وصفة التفاهم أفضل من تبديد الجهد في كسب ود هذا الطرف أو ذاك، طالما أن الجميع يلتقون على بسط السجاد الأحمر أمام سادة البيت الأبيض ولا يطلبون من الأميركيين غير مبادلتهم التحية. الأكيد أن الأمر لا يتعلق بأي نوع من المغامرة في معاودة ترتيب العلاقات بين التيارات الإسلامية الملتزمة بالاعتدال. فقد جربت حوارات وتبودلت آراء على امتداد سنوات حيال كافة الفرضيات المحتملة، بخاصة منذ تحولت الجزائر إلى مختبر تجارب في هذا النطاق، أهدرت فيه أرواح وجهود وأوقات. لم تبتعد منطقة الشمال الأفريقي في أي فترة عن دائرة الاهتمام الأميركي، فقد انتزعت مكانتها من عمق المشروع الكبير الذي أطلق عليه شمال أفريقيا والشرق الأوسط. وشكل الربط بين مكونات هذا الامتداد جزءاً من إستراتيجية بعيدة المدى، اهتمت بجذب هذه الكيمياء السياسية والجغرافية إلى نقاط التلاقي التي تذوب فيها المسافات. ودلت تطورات الأحداث وآخرها استضافة تونس مؤتمر أصدقاء سورية أن الترابط القائم بين مغرب العالم ومشرقه يتجاوز الأميال الفاصلة. ليس فقط لأن تونس تغيرت بعد انهيار نظام زين العابدين بن علي، ولكن لأن البعد الجغرافي مكن من اختراق حواجز نفسية في التعاطي مع القضايا العربية المصيرية. ولم يكن صدفة إن إدارة الرئيس باراك أوباما تمنت على العواصم المغاربية أن تضع أيديها في النار لملامسة المشاكل الكبرى في الشرق الأوسط. تعطل الدور المغاربي سنوات عدة، بسبب الانكفاء الذي خلدت إليه عواصم المنطقة. وزاد في تراكم المعضلات أن هذه المنظومة انشغلت بحساسياتها تجاه بعضها. وكما لم تعد الرباط مركز استقطاب عربي، فقد أدارت الجزائر ظهرها لما يتفاعل في الشرق العربي. فيما أن باقي الشركاء المغاربيين استطابوا إغلاق الأبواب والنوافذ. لا يعني الأميركيين كثيراً أن يكون المغرب والجزائر على وفاق كامل، إلا بالقدر الذي يسمح تفاهمهما بالانخراط في الإستراتيجية الأميركية البعيدة المدى، ولا يعنيهم أن تتحدث المنظومة المغاربية بصوت واحد، إلا أن ما يجعل ذلك الصوت يتماهى مع النظرة الأميركية لما تعتبره استقراراً إقليمياً يبدأ من الجزء ليشمل الكل. على هذا الأساس تصبح العواصم المغاربية مدعوة لتبني خطاب جديد أقرب إلى الواقعية والعقلانية يقنع دول المنطقة أصلاً أنها بدأت تسير في الاتجاه الصحيح وإن كان وضع خلافاتها جانباً كان أكثر أثراً من الاستقواء على بعضها. بهذه الطريقة يمكن للمنطقة أن تحظى بالتفهم والتقدير الذي ينعكس إيجابا على علاقاتها المختلفة بكل العوالم.