صور القمع وملاحقة المتظاهرين بالطريقة الشنيعة التي شاهدناها في ميدان التحرير وبعض المدن الأخرى منذ يوم الجمعة الماضي جعلتني أشك في أن الرئيس حسني مبارك قد غادر الحكم فعلا وثوار 25 يناير قد نجحوا فعلا في حركتهم. انتفاضة الشباب المصري انفجرت من أجل وضع حد لعقود من الفساد السياسي والإداري والتسلط البوليسي الذي حول المصريين خرقة بالية لا قيمة لها إلا تسخيرها لخدمة مصالح النظام الحاكم، لكن الذي جرى قبل أيام قليلة من أول محطة حاسمة على درب بناء مصر الحديثة يجعل المرء يعيد حساباته. لم يكن أي عاقل يتوقع أن ترسو مصر على بساط حريري بمجرد إخراج الرئيس مبارك من القصر الجمهوري فالطريق لا بد أن يكون شائكا ومليئا بالمطبات وهذا أمر طبيعي، لكن أن تعود إلى شوارع مصر الثورة مشاهد قتل المتظاهرين العزل والقمع الأعمى ورجال الشرطة الذين يضربون المدنيين ويجرونهم بأبشع الطرق فهذا ما لا يمكن أن يقبله أحد مهما كانت المبررات. المصريون دفعوا ثمنا غاليا قبل الثورة وأثناءها وباتت كرامة المواطن وسلامته خطا أحمر لا يحق لأية سلطة مهما كانت شرعيتها أن تعتدي عليه. شعب مصر صبر أشهرا طويلة على مراوغات المجلس العسكري وتلاعبات الحكومة لكنه بالتأكيد لن يسكت على عودة قوات الأمن إلى عهدها الجاهلي الذي كانت فيه أرواح وحياة الشعب لا تساوي عند أطراف النظام جناح ذبابة. ماذا فعل العشرات الذين أزهقت أرواحهم أو شوهت أجسادهم أو اقتيدوا إلى مراكز التعذيب حتى يلقوا ذلك المصير؟ هل أحرقوا الأعلام، أم أعلنوا حربا في البلد، أم اعتدوا على حرمات الناس؟ لماذا خرج المتظاهرون إلى ميدان التحرير يوم الجمعة الماضي؟ ليقولوا للحكومة والمجلس العسكري كلاما كان لم يكن أحد يريد سماعه. إذا كان على أحد أن يتحمل المسؤولية السياسية المباشرة لما حدث فهي القيادة الجديدة التي تولت أمور الحكم بعد رحيل الرئيس مبارك وآله، كما أن ذلك لا يعفي الأطراف السياسية التي دعت الناس إلى مليونية الجمعة ثم تولت عنهم وتركتهم لقمة سائغة بين أيدي قوات القمع المتكالبة. تظاهرات الجمعة والأيام التي تلتها كانت من أجل إسقاط ما يسمى الوثيقة الدستورية التي أنزلت الجيش والمؤسسة العسكرية مكانة تسمو على كل شيء في البلد. الملايين من المصريين الذين رفضوا هذه الوثيقة أدركوا بسرعة أن هناك إرادة مبيتة أو على الأقل محاولة للالتفاف على الثورة وإبقاء نفس نمط الحكم فقط من دون مبارك. هل زلزل المصريون بلدهم في يناير من أجل أن يخرج مبارك ويسقط مشروع التوريث فقط ثم يستعيد العسكر زمام الأمور بعد ذلك على طبق من ذهب وبشرعية شعبية زائفة جديدة؟ عندما اشتد عود الربيع العربي وظهرت أولى نسائمه في تونس ومصر، خرج وزير الخارجية الجزائري مراد مدلسي (ولم يكن وحده) ليكرر بما يعرف من لغات أن الجزائر ليست تونس وليست مصر، وكنت أقول حينها لبعض الأصدقاء إن كلام الوزير فيه شيء من الصحة لكن بعد أن نعدل تلك الجملة ونعيد ترتيب كلماتها لتصبح (مصر وتونس ليستا الجزائر)، هذا ما يجب على الوزير وعلينا جميعا أن نقوله، مصر وتونس وليبيا وسورية واليمن وكل بلد تقبر فيه الديكتاتورية لا يمكن أن يكون لها أي وجه شبه بالجزائر. الوزير وكثير من السذج قالوا ولا يزالون يرددون أن الجزائر أنجزت ثورتها قبل 24 عاما وذاقت ما ذاقت من ويلات الفوضى والحرب المدنية وقد آن لها الآن أن تنعم بالسلم والأمان بعيدا عن نسائم الربيع العربي. حكاية فارغة طبعا لأن الجزائر أنجزت فعلا ثورة لكنها سرعان ما أجهضت وانتكست واستعاد النظام زمام الحكم وعاث في البلد فسادا وترهيبا لا يزال الجزائريون إلى اليوم يحصدون شوكه. أفتح هنا قوسا لأسجل استغرابي الشديد من التصريحات التي نقلتها وسائل الإعلام الجزائرية عن زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي في أعقاب زيارته إلى الجزائر بدعوة من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. فقد قال من بين ما قال إنه تنقل إلى الجزائر ليستفيد من تجربة هذا البلد السياسية، كلام جعلني أتخيل قائله رجلا من صلب نظام تونس الزائل أو أي سياسي مبتدئ وليس راشد الغنوشي الذي قضى أزهى سنوات عمره منفيا مطاردا من طرف نظام ديكتاتوري فاسد، والآن وبعد أن عاد القطار التونسي إلى السكة يخرج علينا بكلام لا محل له من الإعراب. ألم يكن جديرا بالغنوشي أن يستفيد من نظام بن علي إذا كان معجبا لهذا الحد بأنظمة التسلط والطغيان؟ قد يحاول البعض التماس العذر لرئيس النهضة التونسية مثل القول إن هذا كلام صدر عنه مجاملة واستحياء من مضيفيه أو أنه كان مضطرا لقول ما قال حتى يأمن شر النظام الجزائري وينال معه كيل بعير، لكني أصر مع ذلك أن هذا كلام غير مقبول وفيه كثير من الإساءة للجزائريين الذين تعاطفوا مع شعب تونس في محنته الأخير وابتهجوا لنجاح ثورته وللخروج الآمن الذي انتهت إليه الانتخابات التأسيسية الأخيرة، وهم نفسهم الجزائريون الذين لا يفارقهم حلم التحرر من قبضة نظامهم الفاسد والتحاقهم بركب الشعوب التي استعادت حقها في اختيار مستقبلها وحكامها. لست هنا في مقام الناصح لكن المفترض أن يكون راشد الغنوشي في مستوى جرأة الثورات العربية فيعلن تعاطفه مع المستضعفين واستنكاره لأنظمة الطغيان وهو يعلم جيدا حجم الضرر الذي لا تزال التجربة السياسية الجزائرية تلحقه بأطياف واسعة من الشعب، كان جديرا به أيضا أن لا يكتفي بمقابلة الرئيس والمسؤولين الآخرين وزعماء أحزاب النفاق، بل لو تعدى ذلك إلى لقاء شخصيات مستقلة أو مضطهدة أو قيادات أحزاب مثل جبهة القوى الاشتراكية لكانت زيارته في مستوى الحدث العظيم الذي بدأت به تونس العام الجديد. أعود إلى الساحة المصرية وأقول إن المجلس العسكري بوثيقة الفتنة التي دسها في طريق الثورة وأدت إلى ما نشهده من بوادر انتكاسة الثورة وكأنه يحاول أن يستنسخ هو الآخر التجربة الجزائرية التي فتحت قوسا لإيهام العالم أن البلد دخل عهد الديمقراطية والحرية ثم سرعان ما أغلقه وعاد إلى ممارسات القمع والتسلط بغطاء شعبي هذه المرة. تجربة مريرة عاشتها جزائر ما بعد عهد الانفتاح السياسي القصير أدت إلى إقناع الواهمين والسذج أن النظام الحاكم إنما هو طوق النجاة الوحيد وهو إكسير حياة الشعب، وكل محاولة للتخلي عنه معناها الفوضى الأكيدة والعودة إلى سنوات النار والدم. لا مفر أمام ثورة 25 يناير من مواصلة النضال حتى الاستبعاد الكامل لأية محاولة قائمة لإجهاضها. على الثورة المصرية كباقي الثورات في تونس وليبيا واليمن وسورية أن تنجح لأن في ذلك حياة لشعوب تلك البلدان وسندا قويا للشعوب الأخرى التي تترقب بفارغ الصبر لحظة الانعتاق والتحرر.