ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جلّود: اكتشف القذافي مؤامرة أقربائه فقتلهم وسحلهم وعلّق جثثهم على الأشجار (3)
نشر في مغارب كم يوم 31 - 10 - 2011

لا يشعر المستبد بالأمان. على رغم وفرة حرّاسه. وفنون التعذيب في سجونه. وتجنيد جيش من المخبرين والوشاة. وقدرته على كمّ الأفواه. وبراعته في إخفاء الجثث. المستبد يأكله القلق. يخاف من سؤال يضمر تشكيكاً. من إصبع يرتفع احتجاجاً. من أغنية أو نكتة. يخاف من الناس رغم استسلامهم أو تظاهرهم بذلك. ومن تعاقب الفصول. ومن التجاعيد إن هاجمت وجهه.
لا يقبل المستبد رأياً ناصحاً أو ناقداً. يعرف أن الكلمات تتجمع في النهاية وتستحيل نهراً. لهذا يجهض كل نقاش في بداياته. لهذا يتهم كل محاولة تصويب بأنها رضوخ لإملاءات خارجية.
يروي الرائد عبدالسلام جلّود أن خلافه الأول مع القذافي بدأ بسبب إقدام مجموعات للأمن على اغتيال معارضين ليبيين في الخارج أُطلقت عليهم تسمية «الكلاب الضالة». وتُظهر روايته أن القائد لم يغسل يديه من هذه الجرائم، والدليل قوله: «التصفيات تتوقف اليوم».
كان القذافي يتظاهر أحياناً بالاستماع إلى جلّود واستعداده لتصحيح المسار وإطلاق مشروع شامل للتغيير. وبمكره المعهود كان سرعان ما يلتف إذا شمّ رائحة انتقادات تنال من صورته وسلطته. ولم يكن يتردد في الاتصال مباشرة بالتلفزيون ليهاجم المتحاورين ثم يأمر بوقف البث.
فاتح جلّود القذافي بموضوع مذبحة سجن بوسليم التي ذهب ضحيتها 1400 سجين معظمهم من الإسلاميين. لم ينكر القائد ما حدث بل حاول تبريره وقال: «لو لم أفعل ذلك لأحرقوا طرابلس وأحرقوك معها».
كان القذافي ماهراً في تطويق الآخرين وتهديدهم والالتفاف عليهم. قال لجلّود ذات يوم: «أنت تحرّض عليّ وأنا لا أريد أن أرى رجال الأمن يهينونك قبل أن تُقتل...». رسالة واضحة. ولاحقاً سيأمر القذافي رجال النظام بقطع علاقاتهم مع جلّود الذي أمضى ثمانية أعوام في شبه إقامة جبرية لم يقابل خلالها إلا عائلته وثلاثة أشخاص. وهنا نص الحلقة الثالثة:
متى كانت آخر مرة التقيت فيها العقيد معمر القذافي؟
- سنة 1998 حاول بعض القذاذفة اغتياله، ولم يتم إطلاق النار عليه لأن المؤامرة اكتشفت، وقد أعدمَ من قاموا بها ومثّل بهم. قبلها بقي أربع سنوات يطلب مقابلتي وقلت له: لا يمكن أن أمد إليك يدي طالما أنت تقمع الليبيين وتجوعهم وتشهِّر بهم، وقررت أن لا أقابله. لكن بعد تلك المؤامرة قلت لعلنا نحصل منه على نتيجة وربما كانت تلك المحاولة درساً له. اتصلت به وقلت له إنني سأزوره وهذا ما حصل. عندما وصلت إلى باب العزيزية استقبلني معانقاً باكياً متأثراً من المؤامرة وكان عبدالله السنوسي ومنصور ضو موجودَيْن فشعرا بالخجل وابتعدا عنا وكنا في الساحة الخارجية. قام بذبح خروف لأنني لم أره منذ مدة وجلسنا في الخيمة. قال لي: هل ترضى يا عبدالسلام، أقاربي يريدون قتلي والتمثيل بي؟ قلت له: ما السبب يا معمر؟ هناك خطأ وأنت سائر في درب خاطئ عليك أن ترجع (عنه). قلت له إن الحل سياسي واقتصادي وليس أمنياً. لقد استخدمت كل وسائل القمع في دول العالم الثالث وزدت عليها وسائل إضافية بينما الحل سياسي. يمكنك أن تستخدم الحلول الأمنية فتأخذ خمسين قراراً أمنياً أو مئة أو مئة وخمسين لكن هذا يعني أنك في دوامة. الحل سياسي. وقلت له مذبحة بو سليم أكبر مذبحة منذ مذابح هتلر. فقال: لو لم أفعل ذلك لأحرقوا طرابلس وأحرقوك معها. فقلت له: حرق طرابلس وحرقي أهون من قتل 1400 شاب. قال لي: هذا لن أتحمله ولن أغفره لك ولن أنساه. موقفك هو الذي جعلني مُداناً في الداخل والخارج.
ما تفاصيل مذبحة بو سليم؟
- إسلاميون في السجن بدأوا تمرداً أخاف القذافي لأنهم إذا خرجوا من السجن وفي ضوء تمسكهم بعقيدتهم يمكن أن يخوضوا مواجهة. تصرفت السلطة بحماقة.
هل يمكن قتل هذا العدد من دون أوامر من القذافي؟
- لا أعتقد خصوصاً بعد أن قال إنه لو لم يفعل ذلك «لأحرقوا طرابلس وأحرقوني معها».
ما هو الحديث الذي دار بينكما في ذلك اللقاء؟
- اختلفنا فقد كنت أعتقد أنه مهيأ وأن تلك المؤامرة شكلت صدمة له ويمكن أن يعود إلى رشده.
هل صحيح أنه أعدم أقاربه وقام بتعليقهم على الأشجار؟
- نعم كما تم ربطهم بالسيارات وسحلهم في الطريق في باب العزيزية.
ألم تلتقِ به بعد 1998؟
- بعد ذلك قال لي بعض الضباط الأحرار: إذا لم تشأ مقابلته فعلى الأقل قم بزيارته في العيدين (الفطر والأضحى) كلفتة إنسانيه. فكنا نتقابل في العيدين فقط في باب العزيزية ولا أتكلم معه في السياسة.
وتعرض القذافي لحادث في رجله.
- تعرض القذافي لحادث في البيضا في التسعينات وزرته هناك.
كيف بدأ الخلاف بينكما؟
- أول خلاف لي معه كان سنة 1980 عندما بدأ بتصفية الليبيين في شوارع أوروبا، وكان يدعوهم «الكلاب الضالة». قلت له إن ثورة تصفي أبناءها في شوارع أوروبا تنتهي أخلاقياً وسياسياً وأيديولوجياً. بقيت في بيتي حوالى ستة أشهر ثم طلبني للحوار. وأنا في طريقي للحوار وكدليل على أن ما أقوله صحيح قبل دخولي إلى مكتبه رأيت رجلاً أسمر طويلاً متورماً بعدما تعرض للضرب ورأسه ووجهه تغطيهما الدماء جاء راكضاً نحوي باكياً. فسألته من يكون فقال إنه حامد الحضيري رئيس تحرير «الزحف الأخضر». وقال اتصلوا بي من القيادة وأعطوني رؤوس أقلام وقالوا لي اكتب مقالاً هاجم فيه عبدالسلام الزادمة، أحد ضباط الأمن المقربين، وقل عنه إنه فاسد. أتاه الزادمة ملثماً مع إخوته وهجموا عليه في «الزحف الأخضر» وضربوه. أنا لم اقترب يوماً من جماعة الأمن. أخذت موقفاً من الأقارب والأمن لأنهم هم أخطر ناس على الشخص القيادي. طلبت إحضار عبدالسلام الزادمة. فأتوا به وهو ما زال حياً يرزق ومعروف من قبل الليبيين فقلت له: ضربته؟ فقال ضربته سيدي. أنا لأول مرة أضرب شخصاً لأنني لم أتمالك أعصابي فصفعته صفعتين وأرسلته إلى السجن. ودخلت على معمر الذي قال لي بتهكم واستهزاء: أنت جلست في منزلك فمن معك غير علي الفضيل (مدير مكتبي)؟ حتى قبيلتك معي. فرددت عليه: أخاف عليك يا أخ معمر أن يأتي عليك يوم لا يكون فيه معك سوى أحمد إبراهيم (أحد أقارب القذافي ويتعاطى الجانب الفكري). بعد ذلك تحاورنا ومشينا إلى الخيمة فوجدت فيها سعيد راشد وعبدالله السنوسي ومحمد المجذوب وبعض الأشخاص فقال لهم: اليوم تتوقف التصفية وأمر بإبلاغ الخلايا التابعة لهم بذلك. فقلت له إنني سأعود إلى عملي في اليوم التالي وفعلاً عدت.
لماذا اتخذ قرار تصفية هؤلاء الليبيين في الخارج؟
- لا يريد أي صوت خارج ليبيا ينغّص عليه. يعتقد نفسه إلهاً ولا يجوز لأحد أن يعارضه أو يمس صورته. وكان يعتقد أن الغرب قد يلجأ إلى دعم بعض الأصوات الليبية في الخارج لهذا كان يحاول التخلص منها.
من نفذ عمليات الاغتيال في الخارج؟
- بالتأكيد جماعة القذافي.
هل لعب أبو نضال دوراً في هذه الاغتيالات؟
- طبعاً، علاقة أبو نضال مع النظام معروفة لكن للأمانة أقول إنني لا أملك تفاصيل لأنني اخترت الابتعاد عن دوائر الأمن. أنا أعتقد أن الأمن والأقارب والمستشارين مهمتهم إقناع أي قائد أن الجميع ضده وأنهم الأحرص عليه، وهذا ما تعلمته من التاريخ لذلك اتخذت موقفاً من الأمن ومن الأقارب ومن المستشارين إلى درجة أنني في اليوم الثالث للثورة سنة 1969 جئت بإخوتي الثلاثة ورفعت بوجههم البندقية وقلت لهم أنتم اعتباراً من اليوم لستم إخوتي، أنا إخوتي الذين خرجوا معي إلى الثورة وأنا أخ لكل الليبيين. وحذرتهم ألا يتم تحويلهم إلى مستشارين غير معيّنين، إذ قد يقصدهم من يريد تحديد لقاء معي أو رفع ملف إليّ، لأن للدولة أطراً وسياقات. كما نبهتهم إلى أن أناساً قد يدّعون صداقتكم بعد الثورة بينما عليكم المحافظة على صداقاتكم التي كانت يوم 31 آب (أغسطس) 1969.
في سنة 1986 قصدت القذافي محذراً من أنه إذا لم يحدث تغيير فسأعود إلى بيتي. أقمنا حواراً في سرت استمر 11 يوماً وانتهت اجتماعاتنا في 11 حزيران (يونيو) 1986 وكان يوم ذكرى طرد القوات الأميركية. بعد أن اتفقنا على تغيير شامل وكتبنا خطة التغيير استقللت معه السيارة (من طراز آودي) وكان يقودها إلى أن وصلنا إلى مهبط كان يستخدمه الأميركيون كرديف لقاعدة الملاحة (كانت أكبر قاعدة أميركية خارج الولايات المتحدة في طرابلس) ولديهم مهبط احتياطي في رأس لانوف. ووجدنا أن ليس هناك حضور (كثيف) في الاحتفال، كان أبو موسى وأحمد جبريل حاضرين لكن عدد الليبيين كان بسيطاً جداً. توجهنا إلى الهراوة وهي منطقة قبيلة أولاد سليمان حيث احتفلوا بنا وتناولنا الغداء وبعده غادر الحضور وبقينا مع مشايخ القبيلة الذين أحضروا طفلة عمرها حوالى خمس سنوات قالت لنا يا عم معمر وعم عبدالسلام أنا لي خمس سنوات لم أتناول فيها تفاحة. مشايخهم قالوا لنا بالحرف الواحد يا معمر ويا عبدالسلام إذا قلنا لكم إن معكم 10 أو 15 في المئة من الليبيين نكون نكذب عليكم فانتهبوا. وهذا يؤيد دعوتي إلى التغيير في حينه لأني كنت مدركاً للوضع.
توجهنا إلى مشارف البيضا حيث أفطرنا حوالى الساعة 12 في اليوم التالي وراجعنا الخطة ثم توجه القذافي إلى البيضا وعدت أنا إلى بنغازي حيث كانت تنتظرني الطائرة للعودة إلى طرابلس. اتفقنا على أساس أن نعد أوراق التغيير الشامل ونعقد مؤتمراً للجان الثورية. أذكر أن الدكتور جورج حبش اطلع على بعض الأوراق التي كنت أكتبها وعانقني وقال لي يا عبدالسلام أهنئك فنحن فصائل وارتكبنا أخطاء في بيروت خرجنا بسببها من لبنان وقمنا بالنقد في مجالسنا كفصائل ولكننا لم نصل إلى جرأة التحليل التي تقوم أنت بها. وأذكر أيضاً أن السفير الروسي جاءني يطلب أخذ نسخة من النقد الذي أعددته إلى القيادة الروسية.
عقد مؤتمر اللجان الشعبية في جامعة الفاتح في طرابلس سنة 1986 وقدمت الأوراق بحضور 30 ألف شخص، بينهم أشخاص من الثورة الحالية إذ كان معظمهم يعمل للقذافي في الخارج. ألقى القذافي خطاباً قال فيه بالحرف الواحد: نحن قدمنا نموذجاً سيئاً ودمرنا أنفسنا ولا نريد أن نتراجع فصفق ال 30 ألفاً. أصبت بخيبة وأعلنت عبر المذياع أنني أرفض هذا الكلام، ولدي 30 ألف شاهد ليبي من الحضور، وقلت: الشيء السيئ لا يشكل نموذجاً بل الشيء الجيد هو الذي يشكل نموذجاً. فاعتقد بعض الحضور أننا سنختلف وانفض المؤتمر.
بعد ذلك سنة 1991 أقمنا حواراً واتفقنا على تغيير شامل. وقلت له يا أخ معمر إذا كان لديك تحفظ أكتب البرنامج لوحدي فلدي الأفكار كلها وإذا كنت غير متحفظ فإنني أريد أن أستعين بعدد من المثقفين والكوادر والكتّاب. قال: لا تحفظ اختَرْ من تشاء. فقمت بانتقاء حوالى 80 شخصاً من الكوادر الاقتصادية والمثقفين والكتّاب والأدباء وأجرينا حواراً واتفقنا على تغيير شامل. بعد أن اتفقت مع القذافي توجه هو إلى الفزّان في جنوب ليبيا ثم اتصل بي بعد عودته وقال لي: أريد لقاءك في الخيمة لمناقشة البرنامج. وصلت إلى الخيمة قبله ومعي الملفات علماً أن الثمانين شخصاً الذين أشركتهم هم من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع المعروفين. وصل القذافي بعدي ومعه الفريق أبو بكر يونس فعندما وجدت أبو بكر معه عرفت أن هناك أمراً ما وسيناريو محضراً. فور وصولهما، وكان أبو بكر يونس طيباً معي، قال لي أبو بكر بطريقته الشعبية: «يا بوي هذا برنامج مفروض علينا من الخارج». عرفت أن القذافي غير جاد وقلت له يا معمر أنت كلفت أبو بكر هذا السيناريو وهو بسيط لا يجيد إخراجه. وحاولت أخذ الملفات والمغادرة فأمسكني القذافي مطيباً خاطري وطلب من أبو بكر الانصراف قائلاً له: على الأقل عبدالسلام يأخذ مواقف وطنية وقومية وأنت تأخذ مواقف أمام الجنود، فقال أبو بكر سأترككما «كباش تتناطح».
اتصل بي القذافي مرة ثانية في بداية التسعينات بعد أن فاز حسني مبارك في «الانتخابات المزورة» وكان القذافي حينها ضعيفاً جداً لأنني أضعفته. ووافق القذافي (على خطتي) وتوجهت إلى أمانة المؤتمر الشعبي العام واللجنة الشعبية وعرضت عليهم كيفية إدارة خطة التغيير وإذا به يتصل بي في اليوم التالي وهو وأعضاء مجلس قيادة الثورة وأبو بكر يونس والخويلدي الحميدي ومصطفى الخروبي يتوجهون إلى السلّوم على الحدود المصرية للالتقاء بحسني مبارك لتهنئته بفوزه. قال لي ما رأيك يا عبدالسلام أن تؤجل هذه الخطة فقلت له: أنت بهذا نسفت المشروع وأنا أعرف أنك لست جاداً. ثم قال بتهكم ما رأيك أن تأتي معنا لتهنئة حسني مبارك؟ قلت له يا معمر الثورة الليبية ضعفت إلى هذه الدرجة. حسني مبارك لا يستحق برقية وأنت تصطحب أعضاء القيادة لتهنئته. وقلت له لو لم أكن مستقيلاً لما تركتكم تغادرون أنتم والقيادة إلى السلّوم. القائد (يظهر ضعفه) ليس فقط حين يكون ضعيفاً في الداخل بل أيضاً حين يكون ضعيفاً في الخارج. وفشلت محاولتي.
ثم حاولت مرة أخرى وكنا خارج سرت الساعة الحادية عشرة والنصف في سيارة صحراوية يقودها الضابط المقرب عبدالسلام الزادمة والقذافي جالس في المقعد الأمامي وأنا في المقعد الخلفي. فقال له الزادمة يا قائد أراك دائماً تتفق مع عبدالسلام الجلود وتخلف بوعدك وأنا هذه المرة شاهد عليك. فربت القذافي على كتفه وقال له مازحاً قُد السيارة.
هذا يعني سلسلة من المحاولات الفاشلة؟
- قبل ذلك كنت في بيتي في البحر ومر عليّ الصديق الصادق النيهوم واطلع على خطة التغيير كاملة. عانقني وقال لي يا بطل لو تحقق ذلك سأرجع من سويسرا ونصدر صحيفة. وحتى صديقه يوسف الدبري وهو من الضباط الأحرار، وكان أسمر البشرة، قال إن الصادق النيهوم طرق بابه الساعة الثالثة النصف وقال له افتح يا «عبد»، أريد أن أحتفل في بيتك على طريقتي بمناسبة برنامج عبدالسلام لأن الكحول كانت ممنوعة ولدى يوسف بعض منها.
فشلت هذه المحاولة أيضاً. ثم حاولت مرة جديدة بعد أن أحضرت عدداً من المثقفين وعلماء الاجتماع المعروفين في ليبيا وهم أحياء يمكنكم الاتصال بهم، وقلت لهم نظموا حواراً حقيقياً صادقاً على التلفزيون حول شخصنة الوطن والسلطة والثورة فكل شيء مرتبط بمعمر واعرضوا التزييف. فقالوا لي ما حدود الحرية؟ قلت لهم الحرية لا حدود عليها إلا ضمائركم والقيم الأساسية للمجتمع، وكلمت علي الكيلاني وكان مسؤولاً عن الإذاعة المرئية وطلبت منه تجهيز صالة لهم والعمل على خدمتهم من دون أي تدخل في شؤونهم. في الليلة الأولى نقل الحوار مباشرة وربما لأول مرة. في الليلة الثانية وهم في سياق الحوار قام القذافي بمداخلة هاتفية وقال لهم هذه مؤامرة أميركية وأنتم تنفذون مؤامرة أميركية وقام بقطع البث عنهم. اتصلت به بعدها وقلت له يا أخ معمر نحن بيتنا من زجاج ولا نقدر على احتمال رأي مخالف لمدة ساعات. قال لي أنت تخرّف وهذا يشجع الآخرين وهذا بداية ثورة مضادة لا نسمح بها.
ثم بدأ القذافي يرسل إليّ ضباطاً وأعضاء من القيادة. اتصل بي والتقينا وقال أنت تحرّض عليّ وأنا لا أريد أن أرى رجال الأمن يهينونك قبل أن يقتلوك وأنت تحرّض عليّ ومن تدافع عنهم كتبوا ضدك مئات التقارير وأنا لا أريدك أن تُهان أو تٌقتل بل سأترك لك البلاد. فقلت له يا معمر أنت لست مستعداً لترك البلاد بل أنت مستعد أن تحكم ليبيا من دون شعب. فقال للأعضاء: هل رأيتم هذا يعني أنه مصرّ على التحريض عليّ. فقلت له اسمع يا معمر جهز التقارير والرفوف والدروج. ثم استدعى الأعضاء وقال لهم لا تكونوا كالمسبحة حين ينفرط عقدها فإذا أخذ عبدالسلام موقفاً تأخذون أنتم أيضاً موقفاً. وقال القذافي: على المستوى الاجتماعي نحن أولاد قبيلة واحدة وعلى مستوى الثورة أنا وهو (عبدالسلام) أدرنا الثورة أنتم ضباط فاشيون قمنا باستغلالكم. هو كان خائفاً إذا غادر وهم موجودون أن يأخذوا موقفاً ضده لكن يختلف الوضع إذا غادرت أنا المجلس أولاً. قلت له يا معمر أنا لست مؤمناً بالأولى (القبيلة) وأنت لست مؤمناً بالثانية (الثورة). رد عليّ مصطفى الخروبي قائلاً سجّل هذا تاريخاً.
بعد ذلك قررت ألا أحاول مرة أخرى. ضغط عليّ الضباط الأحرار والأعضاء وقالوا لي يجب أن تستمر في الحوار فقلت لهم لا فائدة من الحوار. فقالوا لي ما الحل؟ قلت لهم عندي الحل: الوضع في ليبيا وصل إلى درجة تستحق مغامرة غير محسوبة نجتمع والضباط الأحرار والأعضاء في بيتي ونفرض عليه التغيير فقالوا لا هو سيقتلنا أما أنت فمحمي. قلت إذاً لا تكلموني مجدداً لأن الحوار ليس جاداً ولا فائدة منه. وتوقف الحوار بيننا. ومنذ ذلك الوقت كنت ألتقي القذافي في العيدين فقط ويكون اللقاء عادياً جداً وعائلياً بحضور زوجته وأولاده ونتناول الطعام ونتكلم على أمور سبقت سنة 1969 ولا نتكلم في السياسة.
اتصل بي القذافي وبعث إليّ ثلاثة أعضاء من مجلس قيادة الثورة وقال سنضعك أمام الأمر الواقع ونعلن في الإذاعة المرئية أنك أمين اللجنة الشعبية ولديك الصلاحيات الكاملة. قلت له: اسمع يا معمر إذا أردت أن تُضحك الناس عليك (هذا شأنك) لكن أنا لست من الأشخاص الذين تستطيع أن تفرض عليهم وضعاً لا يريدونه. حتى لو أعلنت فلن أطبّق، فلما قلت له ذلك تراجع. ثم حاول القذافي محاولات أخرى.
بعد أن أوقفت الحوار معه سنة 1992، بعد استنفاد كل تلك المحاولات، كنت في البحر الساعة الثانية عشرة ظهراً جاءني اللواء عبدالفتاح يونس الذي استشهد وكان من الضباط الأحرار الممتازين وأحمد قذاف الدم وقالا لي: كنا للتو في رئاسة الأركان وجاءت تعليمات للجيش ورئاسة الأركان وقيادة الجيش وأبو بكر يونس واللجنة الشعبية والمؤتمر الشعبي العام ممنوع على أحد الاتصال بالرائد عبدالسلام جلود وقال القذافي لا أريد سلطة معارضة. وقالا جئنا وكأن التعليمات لم تصلنا للسلام عليك فربما لن نستطيع أن نراك ثانية.
بعد ذلك عشت في عزلة لمدة ثماني سنوات لا أقابل سوى ثلاثة أشخاص. بقيت مقيماً في منزل قرب البحر في طرابلس. في أول فاتح بعد 1993 مرّ يخت أمامي وكان اشتراه الملك إدريس لكن عند حدوث الثورة في 1969 كان ما زال قيد التصنيع في اليونان واسمه «هنيبعل» وأصبح القذافي وأولاده يستخدمونه. أنا لا أعرف اليخت لكن معي أشخاص من البحرية فسألتهم ما هذا اليخت فأخبروني. وكنت متضايقاً فقلت لهم استفسروا عن حالته فإذا كان صالحاً للإبحار أريد الخروج به لبضعة أيام في البحر. كانت ليبيا ترزح تحت نظام استخباراتي. وصل الخبر إلى القذافي فاعتقد أنني أريد الهرب فأرسل إليّ عبدالله السنوسي وقال لي كيف تفكر بالهرب؟ ثم زارني بعض العرب خفية من سورية والأردن واليمن وسألوني: قضيت ثماني سنوات كاملة (من 1993 إلى 2001) في البحر فما الحكمة من ذلك؟ فقلت لأن الأرض تلوثت بالكذب والنفاق والسطحية فتركت الأرض وراء ظهري واتجهت إلى البحر لأنني أجد فيه الصفاء والعمق.
(غداً الحلقة الرابعة)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.