انتقد رئيس المكتب التنفيذي ل «المجلس الوطني الانتقالي» في ليبيا الدكتور محمود جبريل «قلب الأولويات» لدى بعض الأطراف المنضوية تحت عباءة المجلس، مشيراً إلى أن كثيرين «بدأوا الصراع على الكعكة السياسية قبل أن تدخل الفرن». وقلل من نفوذ الإسلاميين في صفوف الثوار، معتبراً أن «كل التيارات السياسية مفلسة وتساوم باسم الثوار». ورأى أن الشباب سيرجحون الكفة بعد انتهاء المعارك مع بقايا نظام العقيد المخلوع معمر القذافي. وأكد في مقابلة مع «الحياة» في نيويورك على هامش مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ضرورة أن تكون الحكومة المقبلة ممثلة لجميع المناطق، معترفاً بوجود «اختلافات في الرأي في شأن أولويات الحقائب بالنسبة إلى هذه المرحلة». لكنه شدد على أن «هذه الحكومة لو اتسعت لتشمل كل ألوان الطيف وكل المناطق الليبية ربما تساعد على إحداث الاستقرار واستتباب الأمن في تلك المرحلة». وأوضح أن المجلس الانتقالي والحكومة الموقتة ليسا جهة اتخاذ قرارات، وأن هذا الأمر يجب أن يترك للحكومة المنتخبة التي قال إنه لن يكون جزءاً منها. وفي ما يأتي نص المقابلة: لنبدأ بما هو متداول الآن، وهو خيبة أمل لعدم توافر وحدة في صفوف القيادة الليبية. لماذا تتقاتلون على السلطة والأمور لم تنته بعد؟ - أعتقد أن السؤال مشروع جداً. حقيقة، نسي أو تناسى كثيرون أن الأرض لم تحرر بعد وأن المعركة لم تنته، فبدأوا صراعهم السياسي مبكراً، وكنت أتمنى ألا تُقلب الأولويات. كنت أتمنى أن يؤجل الصراع السياسي والمنافسة حتى انتهاء معركة التحرير وإلقاء القبض على القذافي وتحرير كامل التراب الليبي، وحتى يوضع الدستور لتحدد قواعد اللعبة السياسية فيتحول هذا الصراع إلى صراع حضاري بمعنى الكلمة تحكمه قواعد دستورية محددة. وهذا ما لم يحدث... - هذا ما لم يحدث للأسف. دخل كثيرون إلى الحلبة ظناً منهم أن المعركة انتهت وأنه آن الأوان لتقسيم الكعكة السياسية. وجهة نظري أن الكعكة السياسية لم تُخبز بعد ولم تدخل الفرن، فالقذافي ما زال حراً طليقاً يملك المال ويملك الذهب، وما زال يسيطر على بعض الأراضي الليبية العزيزة، وبالتالي ليست هناك كعكة للاقتسام بعد. أين هو معمر القذافي؟ - التقارير كثيرة، لكن لا أحد يستطيع أن يجزم بالتحديد بمكانه. آخر التقارير يقول إنه في الجنوب، في منطقة سبها، وهناك من يقول إنه يتنقل بين سبها وتراغن، وهناك من يقول أنه يدخل إلى أغاديس في شمال النيجر ويخرج. يعني عنده حرية التحرك. - هذه المنطقة يسيطر عليها الطوارق، وبعض منهم له ولاء كبير جداً للقذافي. وماذا إذا بقي القذافي وأولاده أحراراً؟ - التكييف السياسي والقانوني للوضع الآن أن النظام سقط ولكن الأرض لم تتحرر، فأنت أمام تكييف يقول إن معمر القذافي وأبناءه يعتبرون منشقين عن النظام الحالي بعد أن كانت القضية معكوسة، فبسقوط النظام في طرابلس وانتهاء الحكومة، سقطت قدرة النظام على مخاطبة العالم. لم تعد هناك آلة لاتخاذ القرار السياسي في العاصمة. كل هذه مؤشرات على أن النظام سقط فعلياً، إلا أنه ما زال حراً طليقاً ويعتبر طريد عدالة. هناك انتقادات لكم لعدم الاستمرار بمسار العدالة عبر المحكمة الجنائية الدولية، وبينكم من يريد أخذ العدالة بيديه والانتقام... - هذا غير صحيح. ما قيل فعلاً عبر الموقف الرسمي للمجلس أن إلقاء القبض على القذافي ومصيره القضائي سيترك إلى الاستشاريين القانونيين ليحددوا إذا كانت الأولوية هي للقانون المحلي على القانون الدولي. العملية ستكون مهنية بحتة لا علاقة لها بالانتقام حتى نظهر للعالم أننا دولة مؤسسات ودولة قانون. والأمر سيترك للاستشاريين القانونيين للبت فيه. لنعود إذن إلى موضوع المنافسة على الحكم، هل الإسلاميون لهم اليد العليا الآن؟ - ليس هناك أحد له اليد العليا غير هؤلاء الشباب الذين بذلوا الغالي والرخيص ثمناً لهذا التراب. وهم ليسوا في السلطة. الكل يساوم باسم هؤلاء الثوار الشباب. كل الطوائف السياسية، سواء الإسلاميين أو الليبراليين أو العلمانيين أو الماركسيين أو القوميين، كل التيارات السياسية تساوم. وجهة نظري الخاصة أن هذه كلها تيارات مفلسة لا تستطيع أن تلبي طموحات الشباب. هذا الشباب هو جزء من ظاهرة عولمية جديدة. من إذن سيقود ليبيا الجديدة؟ - وجهة نظري الخاصة أنه لا بد للشباب الليبي - مثل الشباب في مصر وفي تونس وفي سورية وفي اليمن - من أن يفرز تنظيمه الخاص وأن يفرز قيادته الخاصة. وإلى حين ذلك؟ - إلى حين ذلك سيستمر الصراع ما بين هذه التيارات القديمة، وهو لن يُقبل. كل ما يحدث في مصر الآن، كلما يطرح شيء، أن الشباب يتظاهرون في الشارع. وفي تونس الشيء نفسه. لم يحدث ذلك في ليبيا لأن الشباب منشغلون بالجبهات، لكن عند انتهاء القتال سيحدث ما يحدث في مصر وتونس، وسيخرج الشباب إلى الشارع رافضاً طروحات هذه التيارات القديمة. هناك من يشكك في شرعية تسلمك أنت شخصياً والسيد مصطفى عبدالجليل القيادة. كثير من الإسلاميين يهاجمونك. ما مصير هذه الحملة عليكما؟ - التصريحات كانت من قيادي إسلامي خرج في قناة «الجزيرة» وتحدث. وجهة نظري أن كل الناس لها حق أن تنتقد وأن تشكك وأن تقوّم الأداء. هذه لعبة ديموقراطية يجب أن نتقبلها إذا كان لنا أن ندعي أي صدقية في مجال العمل الديموقراطي، وإلا أصبح أكذوبة. أما الأمر الثاني، فنحن نكلم العالم كله عن المصالحة الوطنية وعن العفو وعن التسامح وعن القدرة على إدارة الحوار في شكل حضاري، فلا بد من أن نعطي المثال على ذلك. إذا شكك أحد في صدقية محمود جبريل، فلا بد من أن يتعامل محمود جبريل من منطلق أن هذا الشخص له الحق أن يشكك طالما لم يدخل هذا التشكيك في مجال التجريح الشخصي. يبدو أن خلافاتكم عميقة. ماذا لو لم تتمكنوا من تشكيل حكومة انتقالية؟ - ستتشكل الحكومة الانتقالية. الخلافات أو دعوني أقول هي اختلافات وليست خلافات. هناك اختلافات في الرأي في شأن أولويات الحقائب بالنسبة إلى هذه المرحلة. وجهة نظري أن قضية التحرير يجب أن تستمر كأولوية مطلقة. ثانياً، هذه الحكومة ليست حكومة برنامج تنموي، هي حكومة وحدة وطنية، بمعنى أن هذه الحكومة لو اتسعت لتشمل كل ألوان الطيف وكل المناطق الليبية ربما تساعد على إحداث الاستقرار واستتباب الأمن في تلك المرحلة. هي قضية اعتراف بجهود كل أبناء الوطن، وليست حكومة تطرح برنامجاً تنموياً وتبحث عن مدة طويلة وموازنة طويلة. هذه حكومة موقتة عمرها قصير تمهيداً للحكومة الانتقالية التي ستتشكل عندما يحرر كامل التراب الليبي. حتى لو استغرق تحرير التراب الليبي طويلاً؟ - ستستمر حكومة موقتة. الإعلان الدستوري يذكر أن هناك حكومتين، حكومة موقتة قبل تحرير كامل التراب، ثم حكومة انتقالية ستشرف على الانتخابات وتشرف على إعداد الدستور وإدارة العملية الانتخابية. المرجعية التي تحدث عنها السيد مصطفى عبدالجليل هي مرجعية إسلامية. هل هذا الطرح عن مرجعية إسلامية لدستور الدولة يعني انحسار العلمانية لمصلحة الإسلاميين في ليبيا؟ - أعتقد أن هذه التصنيفات تستبق الأمور. أنا لا أؤمن بهذه التصنيفات أصلاً. أعتقد أن مشروع الدستور الحقيقي لم يُطرح بعد، وعندما يُطرح سيكون الشعب هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في نوعية الدستور الذي تقوم على أساسه الدولة. كل التصريحات التي طُرحت في الفترة الماضية تتحدث عن دولة مدنية ودولة ديموقراطية على أساس دستوري، دولة مساواة بين جميع الليبيين بغض النظر عن اللون والجنس والأشياء الأخرى التي نعرفها، دولة تحترم حقوق الإنسان، تحاول قدر الإمكان أن تعيش حسب هذه المبادئ. ما يرتضيه الليبيون بعدما يطرح الدستور الحقيقي هو الفيصل، لكن الآن الإعلان الدستوري قامت بصياغته مجموعة من الأشخاص. قد يكون نجح هذا الفريق أو ذاك في وضع بعض من هذه العبارات أو تلك، لكن وجهة نظري أن هناك توافقاً عاماً ليبياً على أن هذه الدولة لن تكون إلا دولة مدنية وليست دولة دينية. ذات مرجعية إسلامية تنطلق من الشريعة؟ - الشريعة هي أحد مصادر التشريع. ولا ننسى أن الدين الإسلامي دين وسطي معتدل يعتمد على المذهب المالكي، فهذا لا يمكن أن يلغى كأحد المصادر الرئيسية للتشريع. يبدو أنك لست قلقاً مما يقال عن ازدياد نفوذ الإسلاميين وصراعهم من موقع قوة على السلطة؟ - ولماذا أقلق؟ هم أبناء وطن أيضاً. طالما أن هؤلاء الناس يتحاورون بالكلمات وليس بالطلقات فصندوق الاقتراع هو الفيصل. ما العيب في أن يحكم الإسلاميون ليبيا؟ ما العيب في ذلك إذا كانوا وسطيين يدعون إلى دولة القانون وإلى دولة ديموقراطية وإلى الحوار وإلى بناء دولة حديثة يتعايش فيها كل الليبيين؟ أنا لا أعتقد أن هناك عيباً على الإطلاق. وما هي ضمانات عدم استئثارهم بالحكم؟ - الليبيون هم الضمان الحقيقي. أنا دائماً أراهن على الشباب. قد يقول البعض أن الليبيين جدد على العملية الديموقراطية بعد القهر الذي تعرضوا له على مدى 40 سنة، ولا يمكن التعويل على هذا في غياب المؤسسات. - من أعاد كتابة تاريخ ليبيا هم هؤلاء الشباب. لم يعد كتابة هذا التاريخ الإسلاميون ولا الليبراليون ولا العلمانيون ولا الماركسيون ولا القوميون ولا التيارات السياسية العربية المعروفة. من أعاد كتابة هذا التاريخ هم شباب صغار من دون عمل أو سكن أو أمل في غد مشرق. هم الذين حملوا أرواحهم على أكفهم وغيروا تاريخ هذا البلد. وبالتالي أنا رهاني الحقيقي على هؤلاء الشباب لأنهم الذين ستكون لهم الكلمة الأخيرة. - هذه الحالات ضخمت. ليست حالة عامة كما يبدو للبعض. حاول البعض الإيحاء أن الليبيين يتخذون موقفاً عاماً ضد الأفارقة، وهذا غير صحيح. حدثت حالات انفلات أمني كثيرة بدافع المرارة والألم والغضب لما فعله الكثير من المرتزقة الأفارقة، وذلك أمر متوقع. لكن هذا ليس موقفاً سياسياً من المجلسِ. هذا لا بد من أن يكون واضحاً. هناك فرق بين أن تكون هذه سياسة يتبناها المجلس وبين أن تكون هذه حالة ما بعد انتهاء الصراع التي فيها انفلات أمني وتحدث بعض الحالات بدافع الغضب وبدافع ما حدث من حالات بشعة من قبل المرتزقة الأفارقة. وماذا عن التوجه الاستراتيجي لليبيا الجديدة. هل سيكون توجهاً متوسطياً أكثر منه أفريقياً؟ - هذا أيضاً للحكومة المنتخبة أن تقرره. وجهة نظري الشخصية شيء آخر، إنما أنا لا أنوي مواصلة العمل السياسي فليس لي أن أدلو بدلوي في هذا الأمر. ماذا ستفعل؟ ألن تستمر في العمل السياسي إطلاقاً؟ - سأعود مرة أخرى إلى عملي الاستشاري الذي انقطع في عام 2007، وأحاول أن أعود إلى الكتابة مرة أخرى ولإلقاء المحاضرات وحضور الندوات. لماذا لا تبقى في السلطة إذا كانت هناك حاجة إليك؟ - السلطة ليست مبتغى ولم تكن مبتغى في يوم من الأيام بالنسبة إليّ. أنا عندما زج بي، وأنا مُصِر على كلمة زج بي لمدة سنتين ونيف في نظام معمر القذافي كانت غصباً عن إرادتي. وعندما تركت كان معروضاً عليّ منصب رئيس الوزراء ويعلم تقريباً معظم الليبيين هذا الأمر. ليس هذا سراً، فلو كانت السلطة مبتغاي كنت سأقبل، خصوصاً أن ذلك العهد كان عهد فساد وعهد غنائم وعهد ثروات، يعني كانت السلطة غنيمة على المستوى الشخصي. حلمي الحقيقي أن أخصص وقتي لأساعد هؤلاء الشباب، 67 في المئة من سكان الوطن العربي، على صياغة حلمهم الخاص الذي فشلت كل التيارات السياسية العربية في تحقيقه لأنهم أكثر قدرة وأكثر جرأة. هم كسروا عقدة الخوف وحققوا ما عجزنا نحن عن تحقيقه. لو أستطيع مع آخرين يؤمنون بهذه القضية مساعدة الشباب العربي، والشباب في ليبيا تحديداً بالنسبة إليّ، على التسييس وإفراز قيادتهم الخاصة، فهؤلاء هم المستقبل والحقيقة. وماعدا ذلك كله. (يتبع)