"الشرق الاوسط" القاهرة: خالد محمود تراجعت أمس نسبيا الجهود المبذولة لاعتقال العقيد الليبي الهارب العقيد معمر القذافي، الذي ما زال موجودا في مكان غير معلوم داخل الأراضي الليبية، فيما انشغل الثوار والمجلس الوطني الانتقالي بخلافات تصاعدت حدتها وبرزت للعلن، للمرة الأولى، مع جماعات سياسية إسلامية فتحت النيران مبكرا على المجلس الانتقالي، في نهاية غير متوقعة لشهر العسل الذي لم يدم طويلا بين الطرفين. وبينما كان المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني يطلق من قلب ميدان الشهداء في العاصمة الليبية طرابلس، رسائل لطمأنة دول التحالف الغربي الداعمة للثوار، بأنه لن يسمح بأي إيديولوجية متطرفة سواء يمينا أو يسارا، خرج علي الصلابي، القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين، بانتقادات عنيفة وحادة غير مسبوقة، ضد الدكتور محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي التابع للمجلس الانتقالي وصلت إلى حد مطالبته بالاستقالة من منصبه. ودفعت هذه التطورات مسؤولا رفيع المستوى في المجلس الوطني الانتقالي، إلى التحذير من إمكانية وقوع عمليات اغتيال ضد بعض أعضاء المجلس الانتقالي، خاصة مع انتشار السلاح في جميع أرجاء البلاد. وقال المسؤول الذي طلب عدم كشف هويته ل«الشرق الأوسط» هاتفيا من العاصمة طرابلس، «نخشى أن يؤدي الصدام السياسي إلى صدام عسكري، ثمة مخاوف من عمليات اغتيال تماما كما حدث للشهيد الفريق عبد الفتاح يونس»، القائد العام السابق لهيئة أركان جيش الثوار، الذي اغتيل في ظروف غامضة على أيدي مسلحين يعتقد أنهم إسلاميون، في مدينة بنغازي نهاية شهر يوليو (تموز) الماضي. وفي أول خطاب جماهيري له في حشد ضم نحو عشرة آلاف شخص مساء أول من أمس، أكد عبد الجليل أن الدولة الجديدة في ليبيا، تسعى لأن تكون دولة القانون والمؤسسات والرفاهية، مناشدا مقاتلي الثوار عدم شن هجمات انتقامية ضد بقايا نظام القذافي. وأعلن عبد الجليل في رسالة ضمنية تستهدف احتواء الجماعات السياسية ذات الصبغة الإسلامية، أن أحكام الشريعة الإسلامية يجب أن تكون المصدر الرئيسي للتشريع في البلاد، مضيفا «نحن نسعى لدولة القانون.. دولة الرفاهية.. وأن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع». وبعدما اعتبر «إننا شعب مسلم، وإسلامنا وسطي، وسوف نحافظ على ذلك، وأنتم سلاحنا وأنتم معنا ضد من يحاول سرقة الثورة يمينا أو يسارا»، قال عبد الجليل «يجب أن تفتح المحاكم لكل من أساء للشعب الليبي بأي شكل كان وعند ذلك سيكون القضاء هو الفيصل في كل شيء». ولفت إلى أن أموال الشعب الليبي في أيدٍ أمينة، وأنها ستصرف في المكان المناسب، مشيرا إلى أنه «سيتم إنشاء ديوان للمحاسبة، وسيكون الشعب هو الرقيب على صرف هذه الأموال، وسيكون الحساب عسيرا لمن يتطاول على المال العام». وأضاف قائلا «نحن نراهن عليكم في حماية الثورة، ونطمئن الدول الأجنبية أن ليبيا مستعدة لاستقبال الضيوف والبعثات الدبلوماسية وأنتم من تحمون الثورة والضيوف والبعثات الدبلوماسية». وأوضح «أطمئن الشعب الليبي، أن ما عليه فقط هو مساعدة المجلس الوطني الانتقالي والحكومة الانتقالية والمكتب التنفيذي، لرسم سياسة فاعلة لتحقيق الرفاهية للجميع، وسوف تتوفر جميع السلع الأساسية والغذائية في الأيام القادمة، وسوف تدفع المرتبات، كما ستدفع مرتبات للباحثين عن العمل والعاطلين عنه». وفي محاولة أخرى لوضع حد للجدل السياسي المبكر في البلاد، بينما القذافي لم يزل حرا طليقا، رأى رئيس المجلس الانتقالي، وسط هتافات التأييد له وللمجلس «إن كل ذلك يتطلب من الجميع احترام القوانين والبعد عن عقلية التصعيد، وترك الأمور لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، والابتعاد عن عملية الإقصاء، نحن نثق في كل الليبيين، وأي مسؤول في السابق نحن نثق فيه». لكن الداعية الإسلامي علي الصلابي، الذي يعتبر من أبرز القيادات الروحية لجماعة الإخوان المسلمين، اعتبر في المقابل، أنه يتعين على محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي تقديم استقالته وترك الليبيين و«القوى الوطنية الحقيقية» يبنون مستقبل بلادهم. وأضاف في تصريحات أثارت امتعاض الكثيرين، ودفعت إلى إطلاق دعوات مناهضة له بتسيير مظاهرات شعبية لدعم المجلس، «إن جبريل الذي لا يزال يعكف على تشكيل حكومته الجديدة، ليس محل إجماع في الشارع الليبي، وإن غالبية الليبيين يرفضونه ويرفضون من يدورون في فلكه». وأضاف «لو سمح الليبيون لجبريل بأن يمارس عقليته لوقعنا في عصر جديد من الاستبداد والديكتاتورية»، مشددا على أن «الليبيين لن يسمحوا بعصر جديد من الديكتاتورية بعد أن قدمت ثورتهم خمسين ألف شهيد». وشن الصلابي هجوما حادا ضد «جبريل ومن معه» ووصفهم بمرضى بالاستبداد والديكتاتورية والإقصاء، معتبرا أنهم «ينظرون إلى ما يحدث في ليبيا على أنه صفقة العمر، ويسعون لسرقة ثروات الليبيين وثورة الشعب الليبي». وإزاء هذا الهجوم غير المتوقع، كشفت مصادر مقربة من جبريل ل«الشرق الأوسط» النقاب عن أن جبريل رفض منح جماعة الإخوان المسلمين أكثر من حقيبة وزارية واحدة في الحكومة التي يعتزم تشكيلها من نحو عشرين وزيرا. وأوضحت المصادر، أن الجماعة سعت، في السابق، إلى إقناع جبريل بمنحها خمس حقائب وزارية من بينها الأوقاف والإعلام والداخلية، لكنه رفض على اعتبار أن ذلك يضع البلاد في إطار حكومة محاصصة وليس حكومة تكنوقراط تضطلع بمسؤوليتها، خلال المرحلة الانتقالية، على مدى الشهور ال18 المقبلة. وقال ناشطون وسياسيون ليبيون ل«الشرق الأوسط» أمس، إن مسيرة دعوا إليها كان يفترض أن تنطلق مساء أمس، من أمام فندق المهاري بالعاصمة طرابلس، للتنديد بتصريحات الصلابي، في إطار سلسلة من المظاهرات المماثلة التي تستهدف تأكيد وجود رأي عام ضد هذه الأطروحات. وقال مسؤول بالمجلس الانتقالي ل«الشرق الأوسط»، إن المجلس يتعرض لما وصفه ب«حملة تشويش» من قبل بعض التيارات السياسية، التي ترى أن المجلس يهدد مصالحها وسعيها لتولي مناصب قيادية في الحكومة المقبلة. وأضاف المسؤول الذي طلب عدم تعريفه «هذه حملة ابتزاز مكشوفة وعلنية، ولن نسمح بأن يتم جر المجلس وحكومته إلى هذه الألاعيب السياسية القذرة، ما زالت أمامنا مهام جسيمة وخطيرة وما يحدث مجرد هراء سياسي لم يحن وقته بعد». وعلمت «الشرق الأوسط» أن الدكتور جبريل يتعرض لضغوط سياسية من قبل جماعات وسرايا الثوار المسلحين بهدف منحهم أيضا مناصب وزارية. وقال مسؤول على صلة بالحكومة المرتقبة ل«الشرق الأوسط»: «نعم هو( جبريل) يتعرض لضغوط، لكنه يرفض الخضوع لها، مهمته كما يرى هي تشكيل حكومة وطنية تعتمد على مبدأ الكفاءة والمهنية قبل أي اعتبارات أخرى». لكن أحد أعضاء المجلس الانتقالي قال في المقابل، إن تشكيل الحكومة الجديدة قد لا يكون سهلا لأنه لن يحظى بتأييد الجميع، مشيرا إلى أن كل القوى السياسية باتت تتطلع الآن إلى لعب دور سياسي علني، والحصول على ثمن لما قدمته من مشاركات أو دعم لانتفاضة الشعب الليبي ضد القذافي. وفي زحمة هذه الخلافات السياسية، التي برهنت على أن شهر العسل قد انتهى مبكرا بين الإسلاميين والمجلس الانتقالي، تراجعت المساعي المبذولة لتحديد مكان العقيد الهارب معمر القذافي وأبنائه وكبار مساعديه العسكريين والأمنيين، في وقت يخوض فيه الثوار معارك عنيفة ضد بقايا قوات القذافي لاستعادة آخر المعاقل المؤيدة له في مدينتي سرت وبني وليد. وقال مسؤول أمني في الوحدة الخاصة المكلفة بتعقب القذافي، إن الجهود المبذولة لتحديد مكان الأخير لم تسفر عن أي نجاح يذكر، منذ هروب القذافي من طرابلس في الحادي والعشرين من الشهر الماضي. وأضاف المسؤول الذي تحدث عبر الهاتف من طرابلس، مشترطا عدم تعريفه «لدينا معلومات متضاربة، لا أحد لديه شيء مؤكد حول مكان اختبائه (القذافي)، ما زلنا نأمل في أن نتمكن من الوصول إليه بشكل سريع في وقت قريب». ولفت إلى أن تأجيل إعلان الحكومة الجديدة التي يترأسها الدكتور جبريل مرتبط باعتقال القذافي أو قتله، مضيفا «نريد أن يتم إعلان الحكومة مع إعلان سقوط النظام نهائيا ورسميا، وهذا لن يتم إذا لم نعتقل القذافي أو نقتله إذا رفض الاستسلام». ميدانيا، بدا أمس أن الثوار على وشك مهاجمة مدينة بني وليد التي تتحصن فيها قوات مؤيدة للقذافي وسط عملية نزوح واسعة النطاق من السكان، الذين وصفوا الأوضاع المعيشية بداخلها بأنها مزرية بسب انقطاع الاتصالات والكهرباء. وأوقف الثوار عملية تقدمهم لحسم مصير المدينة لبعض الوقت لتمكينهم من الهروب من داخلها إلى أماكن بعيدة عن القتال، فيما عززت قوات القذافي من مواقعها العسكرية داخل البلدة، واتخذت من أسطح المنازل مواقع لقاذفات الصواريخ وفقا لما قالته مصادر عسكرية لقناة «ليبيا الأحرار» المحسوبة على الثوار. واندلعت اشتباكات عنيفة بين الثوار والكتائب في شوارع مدينة سرت مسقط رأس القذافي، فيما ترددت معلومات عن أن المعتصم نجل القذافي الذي يتولى منصب مستشار الأمن القومي الليبي موجود في المدينة. ونجح الثوار في إجبار قوات القذافي على التراجع باتجاه هراوة الواقعة على بعد 70 كيلومترا شرق سرت، قبل أن يتقدموا على مسافة 50 كيلومترا من جهة الغرب، ليعلنوا أيضا أنهم باتوا على مشارف براك الشاطئ التي تبعد 70 كيلومترا فقط عن سبها.