لو كان الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي قد ألقى خطاباته الثلاثة الأخيرة قبل شهر واحد أو شهرين من موعدها لكان الآن يحظى باحترام شعبه ولتمكن من قضاء باقي أيام عمره في نعيم ولبقيت تماثيله وصوره ترصع الساحات والإدارات العمومية وربما كان التونسيون سيصنعون له تماثيل أخرى، ولو قال رئيس مصر المطاح به حسني مبارك ما قاله في خطاباته الأخيرة قبل أن ينتشر بيان ثورة 25 يناير بين المصريين لما كان الآن في تلك الحالة البئيسة التي يراها فيها العالم وشعبه طريح فراش سيارة الإسعاف يتنقل بين مقر اعتقاله والمحكمة مجرما وشعبه يطالب بالقصاص منه. كلاهما قالا إنهما لن يترشحا للانتخابات الرئاسية المقبلة ووعدا بإصلاحات سياسية ودستورية عميقة طالما كان شعباهما يطالبان بها بينما أفنيا هما حياتهما من أجل التنكر لها وإكراه الناس على حياة الذل والهوان في كنف الدولة البوليسية الطاغية. لم يكن الرئيسان المخلوعان على درجة من الذكاء والبصيرة لكي يتفاديا مصيرهما المحتوم، بل أصرا على مغالبة الشعب وإراقة دماء الأبرياء تماما مثلما فعل سفاح ليبيا ويفعل الآن نظام الأسد المجرم. النظام الجزائري أوهم نفسه وشعبه أنه أكثر ذكاء وأنه قادر على الصمود أمام الإعصار الشعبي العربي الهادر، فبالموازاة مع تفانيهم من أجل إفشال الثورة في تونس بالتشويش عليها وتشويه سمعة ثوار ليبيا وتمكين القذافي منهم أطلق حكام الجزائر حملة ذر الرماد في العيون ليوهموا الجزائريين والمجتمع الدولي أنهم استجابوا لرغبة الشعب وأنهم شرعوا في إصلاحات سياسية عميقة من شأنها أن ترفع الجزائر إلى مصاف الدول الديمقراطية بين عشية وضحاها، مع التركيز في كل مرة على أن كل هذا يأتي بفضل وتكرم من فخامة الرئيس وبمبادرة شخصية منه، أي لا دخل للربيع العربي ولا لضغط الرأي العام المحلي في هذا. قبل يومين اجتمع مجلس الوزراء وأصدر بيانا قال فيه إنه درس ووافق على ثلاثة مشاريع تتعلق بقوانين الإعلام والأحزاب السياسية والجمعيات، وقد بدأ الإعلام الرسمي يطبل ويزمر ويحاول جاهدا أن يفهم الناس أن أبواب الجنة ستفتح أمام الجزائريين. لم يفهم كثير من المراقبين سر الحرص الكبير الذي أولته السلطات لهذه الإصلاحات حيث انعقد من أجلها مجلسان وزاريان في غضون أسبوعين، واستغرق الاجتماع الأخير يومين وهو ما لم يحدث من قبل، بل كان الجزائريون مرات يتساءلون عن سبب عدم انعقاد هذا المجلس لشهور متتالية. في الجزائر مثل شعبي معروف يقول (الخوف يجرّي الشيوخ)، وهو ربما الوصف الصحيح لحالة النظام الجزائري الذي حاول أن يتدارك ما فات بالإعلان عن إصلاحات دستورية وسياسية كان الجزائريون يطالبون بها منذ فجر الاستقلال. الوضع لم يعد يحتمل التراخي فنظام العقيد في ليبيا انهار وفي الجزائر بدأ الشباب يتحدثون عن دعوة شعبية من أجل التغيير يوم 17 سبتمبر الجاري، وقد فهم النظام أن الاستمرار في تجاهل مطالب الشعب لن يبقيه كالسابق في مأمن. لكن مثلما هو الشأن في الحالتين التونسية والمصرية فإن هذه الإصلاحات أو النية في الإصلاحات لم تأت فقط متأخرة بل يشوبها كثير من الحيلة والضحك على الشعب، ولعل أول ثغرة فيها أن الرئيس يؤكد في كل مرة أن تلك الإصلاحات جاءت بعد مشاورات سياسية عميقة وواسعة مع أحزاب وشخصيات وطنية ومع ذلك فإنه يقرر أن لا يكون تكون هناك انتخابات برلمانية مسبقة رغم علمه وعلم الناس أجمعين أن البرلمان الحالي لا يمثل الشعب في شيء ثم يقرر أن يوكل لهذا البرلمان مهمة إصدار القوانين الجديدة وأن لا يجري التعديل الدستوري الموعود إلا في عهد البرلمان القادم، بينما كثيرون طالبوا خلال المشاورات السياسية المزعومة أن تكون البداية بمجلس تأسيسي أو على الأقل بتعديل دستوري تنبثق بموجبه المؤسسات الدستورية المقبلة. المجلس الوزاري الأخير والذي سبقه أسفرا عن اتفاق الرئيس ووزرائه حول مشاريع القوانين المتعلقة بالانتخابات والأحزاب والجمعيات والإعلام، وفي كل هذه المشاريع مواد تحيل إلى احتكام المواطنين إلى القضاء في حال أحسوا أن هناك اجحافا في حقهم من طرف الإدارة أي الحكومة، بينما يدرك الجزائريون جميعهم أنه ما لم يكن هناك قضاء مستقل فإنه يستحيل أن يحصل المواطن على حقه من الحكومة أو الإدارة عندما تظلمه. الاجتماع ما قبل الأخير خصصه مجلس الوزراء تحت رئاسة عبد العزيز بوتفليقة لدراسة مشروع قانون الانتخابات الذي ينص على عدد من التدابير (الصارمة) التي من شأنها أن تحفظ كل عمليات الاقتراع القادمة من التلاعب والتزوير. هي كلها في الحقيقة إجراءات مثيرة، لكن الذي شدني فيها هي تلك الفقرة التي وردت في بيان مجلس الوزراء جاء فيها: (في الأخير وناهيك عن العقوبات على كل انتهاك لأحكام القانون المتعلق بنظام الانتخابات يقترح مشروع القانون عددا من العقوبات في حق كل من يحاول شراء ذمم المنتخبين أو تزوير الانتخابات كيف ما كان ذلك. وتتضاعف شدة هذه العقوبات كلما كان الفاعل عونا عموميا). كلام جميل ومطمئن طبعا، خاصة إذا علمنا أن الجزائريين عانوا طيلة انتخابات عهود التسلط من التلاعب بأصواتهم واختياراتهم وحرموا من أن يصل إلى مختلف مستويات السلطة من البلدية إلى الرئاسة رجال ونساء اختاروهم بمحض إرادتهم دون وصاية ولا تزوير قبلي أو بعدي. لكن ماذا سيكون رد فخامته إذا سألناه إن كان سيطبق أحكام القانون الانتخابي الجديد على النظام الذي يمثله؟ لا أحد يجهل أن أول جهة تحترف شراء ذمم الناخبين وتزوير الانتخابات هي النظام ممثلا في الحكومة أو الإدارة، ونحن نعلم جيدا أن الذين يطبلون ويزمرون على مر العهود للسلطة هم أشخاص ينطقون باسم أحزاب أو جمعيات أو نقابات تصرف عليهم أموال طائلة من الخزينة العمومية بغير وجه حق. جمعيات وأحزاب لا تمثل إلا الشلة المجتمعة حولها والسلطات تعلم ذلك لكنها تصر على أن تحتفظ بها كما هي لتقول للناس إن في الجزائر حياة سياسية وجمعوية ونقابية نشطة وتعددية، بينما أغلبية الجزائريين لا يجدون أنفسهم ولا أصواتهم في تلك الكيانات المرتشية. فلينظر الجزائريون إلى الذين يطلون عليهم كل مساء في نشرات أخبار التلفزيون الحكومي ليتذكروا أنهم أناس ترعرعوا وشبوا وشابوا على التطبيل للنظام مهما تبدل جلده، رجال ونساء لا مهنة لهم غير التطبيل والتزمير للنظام وهم يدركون جيدا أنهم إذا خرجوا من تلك الدائرة سيجدون أنفسهم على الهامش، لأنهم لا يجيدون مهنة أخرى غير مهنة التسول السياسي. مشروعا قانوني الأحزاب والجمعيات الجديدان ينصان على أن أي حزب أو جمعية تقدم بطلب الاعتماد سيكون معتمدا بقوة القانون إذا لم ترد الإدارة على الطلب برفض صريح، وفي هذا اعتراف بخطيئة كبرى أبدعت فيها حكومات بوتفليقة المتعاقبة التي ترفض الاعتراف بأحزاب تقدمت في ظروف قانونية واستوفت كل الشروط بطلبات اعتماد لكنها لا تزال إلى الآن غير معترف بها، ويكفي أن نقول إنه لم يتم اعتماد أي حزب طيلة فترات حكم الرئيس بوتفليقة الثلاث رغم أن الدستور الساري ينص على أن تأسيس الأحزاب حق لكل الجزائريين وأن قانون الأحزاب ينص مثل قانون الجمعيات الساريين ينصان أيضا على أن كل حزب أو جمعية تقدم بملف اعتماد كامل سيكتسب حق الاعتراف الرسمي به بقوة القانون إذا لم ترفض الإدارة طلبه، ومع ذلك فلا أحد من تلك الأحزاب ولا الجمعيات ولا النقابات تمكنت من انتزاع هذا الاعتراف، فماذا يضمن أن لا يكون هذا هو نفس مصير طلبات الاعتماد بالنسبة للأحزاب والجمعيات والنقابات لاحقا خاصة أن الرئيس هو نفسه والحكومة نفسها والوزراء نفسهم والنظام هو نفسه لم يتغير؟ مجلس الوزراء الأخير تحدث أيضا في مشروع قانون الإعلام الجديد عن (اقتراح) فتح النشاط السمعي البصري، وقد بدأ المزمرون والمطبلون في التهليل لذلك، وهم يدركون جيدا أن هناك فرقا شاسعا بين الحديث عن صدور قرار أو عن دراسة اقتراح، وقد أشار البيان الوزاري إلى أنه (سيتم لاحقا إصدار قانون خاص يتعلق بالمجال السمعي البصري لاستكمال ضبطه)، ولا أحد يمكنه أن يتوقع كم من الزمن سيفصلنا بين الحاضر و(لاحقا)، هذا إذا سلمنا أن السلطات ستكون جادة في فتح هذا المجال ورفع احتكار النظام للإعلام السمعي البصري، لأن الكثيرين يتوقعون أن لا يكون الانفتاح الموعود مختلفا عن الانفتاح الذي حصل في عهدي زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، أي فضائيات يؤسسها أناس ذوو حظوة لدى النظام ولا تخوض في السياسة إلا عندما يملى لها وبالطريقة التي لا تغضب ولي النعمة. إصلاحات بوتفليقة أو لنقل وعوده لأننا لم نر شيئا في الميدان بعد لا تختلف عن وعود بن علي ومبارك في توقيتها على الأقل، لأن الجزائريين الآن لا ينتظرون إصلاحات تأتيهم من فوق ووفقا لرزنامة الحكام وإرادتهم، بل إنهم في طريقهم نحو الحصول على إصلاحات حقيقية كما يريدونها هم وأول هدف لها هي أن تحدث ثورة في الطريقة التي تحكم بها البلاد منذ خمسين عاما وأن تسقط نظام الفساد والبغي واحتقار الشعب والضحك عليه بأقراص تهدئة ورشاوى من حين إلى آخر. بوتفليقة وجميع وزرائه كانوا يؤكدون إلى عهد قريب (أقل من شهرين) على أن الوقت لم يحن لفتح النشاط السمعي البصري أمام الخواص والمهنيين، والرئيس كان يقولها بصراحة ووقاحة (لن يفتح القطاع السمعي البصري في الجزائر)، كان يقولها بطريقة يتخيل معها الجزائريون أنه يضيف بعدها جملة تتردد كثيرا بينهم وهي (دزوا معاهم). فماذا تغير يا فخامة الرئيس حتى ترضى الآن بدراسة اقتراح لفتح تلفزيونات وإذاعات خاصة ومستقلة؟ لا شيء تغير في الجزائر منذ حكمتها بل من قبل ذلك، والتغيرات الوحيدة التي حصلت إنما هي في الخارج، ونحن نعلم أن النظام وأنت معه تحبون كثيرا أن ترددوا علينا قولتكم المشهورة (لا أحد يملي علينا ما نفعله من الخارج).