وأخيرا فعلها المصريون وقدموا رئيسهم إلى المحاكمة. يحدث هذا لأول مرة في دولة عربية وبإرادة شعبية داخلية. تقديم الرئيس المخلوع وأبنائه وقبل ذلك أركان نظامه إلى المحاكمة. واعتقالهم على ذمة التحقيق. حتى قبل شهرين كان مجرد تخيل حصول مثل هذا الأمر معجزة، لكنها إرادة الشعوب الحرة، إذا أرادت شيئا أن تقول له كن فيكون. تصوروا. الرئيس المصري قيد الحجز، ونجليه جمال وعلاء، وراء القضبان إلى جانب أركان النظام السابقين. والتهم ثقيلة تتنوع من الفساد المالي إلى إفساد العمل السياسي، إلى عدم احترم حقوق المصريين الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، إلى القتل العمد للمتظاهرين... عندما كان بضعة آلاف من الشباب ينزلون إلى ساحة التحرير بعد انتصار الثورة المصرية، للمطالبة بمحاسبة المفسدين ومحاكمة حكام مصر السابقين وعلى رأسهم محمد حسني مبارك ونجليه، كان الكثيرون ممن فاجئهم المد الثوري يعتبرون استمرار مثل تلك التظاهرات مجرد إخلال بالأمن ومزايدات ترفعها أقلية من المغامرين، اللذين لايهمهم استقرار بلدهم ومستقبلها. وبعد تدخل قوات الجيش بعنف لتفريق تلك القلة من المتظاهرين الصامدين وضع أغلب المصريين ومن حولهم شعوب العالم العربي اللذين يراقبون ما يحدث في مصر على أنه نموذج لما يمكن أن يحدث في باقي الدول المجاورة، وضع هؤلاء أيديهم على قلوبهم، خشية أن يكون ما حدث يوم 25 يناير (تاريخ اندلاع الثورة المصرية)، هو مجرد "بروفا كبيرة"، لثورة خطفها الجيش. لكن حيوية الشعب المصري وقدرته على التحدي ستفاجئنا مرة أخرى عندما أرغم المجلس الأعلى للجيش الذي يقود مصر حاليا، على تقديم الاعتذار على ماحصل، وتقديم أقطاب الحكم إلى المحاكمة. ولأول مرة في العالم العربي يأتي الوزير الأول المصري إلى التلفزيون الرسمي ويقدم اعتذارا رسميا للشعب عما حدث ! ما تعيشه مصر اليوم من أحداث غير مسبوقية في تاريخ دول المنطقة، تجعل الجميع يعيد النظر في تقييمهم لقدرة الشعوب، عندما تمسك إرادتها بنفسها، على صناعة حاضرها بنفسها. وما تصنعه اليوم الثورة والثوار المصريين هو جزء من التاريخ الحي الذي سيجعل باقي الشعوب تتأمله، وأغلب الحكام يأخذون منه العبرة قبل أن يفوت الأوان. وهنا لا بد من النظر أيضا بشئ من الاحترام للرئيس المصري السابق، الذي اختار أن يبقى في بلده ويواجه مصيره هو وأسرته مؤمنا بهزيمته ومستسلما لقدره. لقد كان بإمكان محمد حسنى مبارك أن يهرب خارج بلده كما فعل الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي. وكان بإمكانه أن يفاوض قبل رحيله على عدم ملاحقته قضائيا كما يفعل اليوم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح. كما كان بإمكانه أن يتخندق داخل قصره الرآسي مثلما يفعل حاليا العقيد الليبي معمر القذافي، ويقاتل شعبه "زنكة زنكة"، إلى أن يصير مآله مثل الرئيس العاجي لوران غباغبو الذي انتشرت صوره المهينة على المواقع الإلكترونية وهو في حالة انهيار عندما ألقي عليه القبض بلباسه الداخلي في غرفة نومه ! محاكمة الرئيس المصري، تتطلع إليها أغلب الشعوب العربية، لأنها ستعطي الدرس لكل حاكم عربي على المصير الذي ينتظره إذا لم يحترم إرادة شعبه. والعيون ستكون مركزة أكثر على مؤسسة القضاء المصري التي برهنت في أكثر من مناسبة على استقلالية ونزاهة قضاتها، لتقديم محاكمة عادلة لأركان النظام السابق وعلى رأسهم الرئيس المصري المخلوع. فالصورة التي سيقدمها لنا القضاء المصري هي التي ستمحو بشاعة "المحاكمة"، التي أخضع لها الرئيس العراقي السابق صدام حسين والتي انتهت بشنقه على الهواء ذات صباح عيد أضحى. لقد نفرت تلك "المحاكمة" الشعوب العربية من قضائها، وجعلت شعوب العالم تنظر إلى المجتمعات العربية كمجتمعات غير مؤهلة للديمقراطية التي لا يمكنها أن تستقيم إلى في ظل وجود قضاء مستقل ونزيه. في أحدث استطلاع للرأي أجري في أمريكا، أظهر أن الثورات الشعبية في العالم العربي حسنت صورة العرب لدى الرأي العام الأميركي وعلى الأخص صورة المصريين بعد نجاحهم من إسقاط رئيسهم بطريقة سلمية. بل واظهر الاستطلاع أن معظم الأميركيين يؤيدون التيار المطالب بالمزيد من الديموقراطية في الدول العربية حتى لو انه قد يطرح تحديات على بلادهم. فالثورات العربية رفعت أسهم العرب لدى الأمريكيين، بعد أن رفعت رؤوسهم في بلدانهم.