لم تكن المرة الاولى التي دخلت فيها الى مخفر للشرطة ، من أجل إنجاز بطاقة الهوية الوطنية أو التصريح بضياع وثيقة ادارية ،بل بسبب " الكتاب الاخضر " لمؤلفه العقيد معمر أبو منيارالقذافي. تذكرت هذه الطرفة ،التي شكلت أحد أولى مصادفات سبيلي الصحافية، وانا اشاهد، قبل أيام، على شاشة التلفزيون ثوار بنغازي وهم يمشون خيلاء النصر، ويرفعون شاراته وسط طرابلس، واضعين حدا لسلطة من كبس على انفاسهم وانفاس مواطنيهم مدة تجاوزت اربعة عقود. استحضرت في عجالة شريط ذكرياتي الليبية القصيرخاصة يوم انتدبتني جريدة " الشرق الاوسط " الى طرابلس، في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، لانجاز تحقيقات عن هذا البلد المغاربي، الذي عاش دائما على كف عفريت، عشية فرض العقوبات الدولية عليه،جراء تداعيات حادث تفجير طائرة "بان ام" الاميركية فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية ،وكذلك و يوم الفيت نفسي وجها لوجه أمام" ملك ملوك افريقيا" في مقر القمة العربية - الافريقية الاولى ،التي احتضنتها قاهرة مبارك يومي 3 و4 ابريل 2000. سأبدأ بإستدعائي للحضور الى مركز الشرطة في أصيلة للقاء مسؤول الاستعلامات ، وهي الاستدعاء التي اعتبرها خطوة اولى في رحلة الالف ميل الصحافية.فوقتذاك كنت أصعد،لا شعوريا، وقبل الاوان ،عربة قطار " صاحبة الجلالة "، وانا ما زلت تلميذا في المرحلة الثانوية . واليكم القصة . في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، تعرفت خلال إحدى دورات موسم اصيلة الثقافي الدولي على الصحافي التونسي الصافي سعيد،الذي كان انذاك مراسلا لمجلة " كل العرب "،العراقية الهوى التي يوجد مقرها في باريس.كنت مدمنا على قراءة ومتابعة المجلات العربية الصادرة في المهجر مثل "الوطن العربي " و "المستقبل " و"كل العرب" ايضا. وكانت مراسلات الصافي وحواراته وكتاباته تشدني كثيرا،مثلما شدني قبل اشهر قليلة كتابه الرائع عن المجاهد الاكبر الحبيب بورقيبة " بورقيبة .. سيرة شبه محرمة ". ذات يوم ربيعي ثمانيني،عزم الصافي على السفر الى صخرة جبل طارق لانجاز تحقيق صحافي،ومحاورة رئيس حكومتها وقتذاك بيتر كروانا،وزعيم المعارضة جو بوسانو.وبالفعل كتب تحقيقا رائعا وضع له عنوانا جميلا ومثيرا هو "جبل طارق .. الجميع يتصارعون عليه ولم يبق للعرب سوى الاسم ! ". في طريقه الى طنجة قادما من الرباط عرج الصافي على اصيلة،ووجه لي مشكورا دعوة مرافقته الى مدينة البوغاز لقضاء ليلة هناك،واقمنا في فندق الموحدين.وفي اليوم التالي ركب الصافي زورقا سريعا متوجها الى جبل طارق، بينما عدت انا ادراجي الى اصيلة .وبعد مرورحوالي اسبوعين على هذا اللقاء ، اخبرني والدي ان رجل شرطة جاء صباحا يسأل عني .وبما انني كنت لا أزال نائما فقد طلب منه الشرطي ان احضر، عندما أستيقظ ، الى مركز الشرطة،واسأل عن الضابط فلان دون ان يخبر والدي عن سبب الدعوة الكريمة. في مركز الشرطة ،استقبلني الضابط بأدب ولطف، وطفق يسألني عن طبيعة علاقتي بالصافي ،وكيف تعرفت عليه،وهل تحدث معي بشأن الاوضاع السياسية في البلاد،وهل قدم لي كتبا ومجلات.وأجبت على تلك الاسئلة باقتضاب ، وقلت ان الصافي صديق تعرفت عليه خلال موسم اصيلة الثقافي،وهو مراسل معتمد في المغرب ،وان حديثنا تطرق لامور عادية ، وانه لم يقدم لي أي كتاب او مجلة .وكان جوابي الاخيرمجانبا للحقيقة لان الصافي اهداني نسخة من الكتاب الاخضر "، وذلك في معرض حديثنا عن ليبيا و القذافي ، خاصة أنه سبق له ان اجرى ، قبل بضعة أشهر ،حوارا مع " قائد ثورة الفاتح " ، وروى لي أيضا كيف أن ادارة تحرير المجلة مارست الرقابة على جزء كبير من تصريحات العقيد.وقال لي انذاك عن "الكتاب الاخضر" :" لن اقول لك هل الكتاب جيد ام سيء ، اقرأه قبل أن تصدر حكمك عليه ". نبهني حدسي الى ان ابلاغ ضابط الاستعلامات بموضوع " الكتاب الاخضر " قد يدخلني في متاهات لن أجد لها مخرجا.وبالفعل لم يدم لقائي به اكثر من 15 دقيقة،وتبين لي بعد مغادرتي لمكتبه ان سبب الاستدعاء راجع لتنبه الامن الى وجود تلميذ من اصيلة رفقة صحافي أجنبي في فندق بطنجة،هذا مع العلم ان الصافي كان في احيان كثيرة مشاغبا في مراسلاته الصحافية. وفي مساء اليوم ذاته هاتفته واخبرته بما جرى ، فقال لي :" اذا كنت تريد أن تصبح صحافيا فعليك أن تتعود على الذهاب الى مخافر الشرطة"، وهو ما جعلني احس بقدر من الزهو، وغمرني فرح طفولي جارف، وزادت قناعتي ان موعدي مع الصحافة قادم لا محالة . الحكاية الليبية الثانية ، تعود الى بداية التسعينيات،أي قبيل اشهر قليلة من فرض العقوبات الدولية على ليبيا ، حينما ذهبت الى طرابلس لكتابة تحقيقات عن الاوضاع هناك ، و ارتأى نظر اخي واستاذي عثمان العمير ،رئيس تحرير " الشرق الاوسط" انذاك ،الا ارسل اخبارا من ليبيا الى حين عودتي منها ، تفاديا لاي ردة فعل غير محمودة من نظام القذافي . والمفارقة انه حتى اذا اراد الصحافي ان يرسل فاكسا او يجري اتصالا هاتفيا فذلك يظل ضربا من المستحيل . فالبلد معزول عزلة قصوى ،وكلمة "اتصال " لا وجود لها في قاموسه، ثمة أعطاب كثيرة في هذا المجال. طرت الى طرابلس لامكث فيها ستة أيام ،وانا فرح بتوفري على ارقام هواتف شخصيات سياسية واعلامية زودني بها صديقي الشاعر والدبلوماسي السوداني الليبي ، محمد الفيتوري،شفاه الله، لكنني قررت في اليوم الثاني لوصولي اليها تقليص مدة اقامتي الى 4 ايام جراء عدم تمكني من لقاء أي مسؤول ليبي ممن اعطاني الشاعرالفيتوري ارقامهم الهاتفية .فقد اتصلت ببعضهم ووعدوني بالاتصال بي قريبا في فندق "باب البحر" حيث كنت اقيم،لكنهم لم يتصلوا ابدا .والفيت نفسي اجول في طرابلس اشاهد الناس والمحلات التجارية وصور القذافي وشعارات الكتاب الاخضر المعلقة ،حتى التخمة ،في كل مكان،وأشاهد ايضا الفوضى غير الخلاقة في حياة الليبيين اليومية ، الى ان التقيت بالصدفة صديقي الصحافي الصافي سعيد في فندق "المهاري"، وقلت له " انت الشيء الوحيد الجميل والمبهج الذي رأيته في ليبيا حتى الان ". خلال الايام الطرابلسية الاربعة لم اكن اجد راحتي الا حينما أحل بين ظهراني الشارع الذي يوجد فيه مكتب الخطوط الملكية المغربية .فذاك المكان كان مربط خيلي الطرابلسي ومتنفسي ، فهناك ، ثمة هواء مغربي يهب ،ثمة احساس بقيمة المغرب ورقيه وتحضره .بيد ان اهم ما اكتسبته خلال تلك الايام الاربعة ،التي مرت وكأنها شهر ، هو تخلصي من كل الاوهام التقدمية والتحررية المعادية للرجعية التي كانت معشعشة في جزء من عقلي .ففي طرابلس اكتشفت ان الرجعية ( بالمفهوم الاخضر ) هبة من السماء ورحمة من الله ولطف منه . علمتني طرابلس ، ايضا، النفور من اللون الاخضر رغم حبي الكبير لفصل الربيع وورود الياسمين وازهار الدفلى والاقحوان ، وفيها زادت حساسيتي ازاء كلمة " ثورة " على الطريقة القذافية ،ناهيك عن كوني غادرت مدينة الخضرة المصطنعة دون التمكن من كسب صداقات ليبية،فالكل في العاصمة كان حذرا من أي كائن اجنبي حتى لو كان ينطق لغة الضاد ،بينما لسان حالي يردد ما قاله العظيم المتنبي " شر البلاد مكان لا صديق به .. وشر ما يكسب الانسان ما يصم ". أما الحكاية الليبية الثالثة فبدأت حينما الفيت نفسي، دون تخطيط مسبق، على مقربة من قاعة اجتماع مفتوحة في مكان انعقاد قمة افريقيا واوروبا الاولى في القاهرة ، حيث جرت مباحثات بين جلالة الملك محمد السادس والعقيد القذافي ،وكنت سعيدا بمشاهدة هذا اللقاء التاريخي التي لا يتيسر دائما للصحافيين حضوره . وعقب انتهاء اللقاء،ومغادرة جلالة الملك القاعة،وجدت نفسي مندفعا باتجاه العقيد وكلي أمل في الظفر بتصريح منه ، وسألته عن حقيقة الانباء الرائجة في تلك الاثناء بشأن وجود اتصالات ليبية اسرائيلية ،وقبل ان اكمل طرح سؤالي صدني أحمد قذاف الدم ، ابن عم العقيد، بعنف ،حتى لا اقترب من " القائد"، لدرجة ان الامر اختلط علي ، وتساءلت ما اذا كان قذاف الدم منسقا للعلاقات الليبية المصرية ام هو حارس شخصي للعقيد .لكن يبدو ان القذافي رق قلبه علي ، وطلب من ابن عمه وحرسه الشخصي ان يتركوني أكمل سؤالي ،فكان جوابه مقتضبا جدا واكتفى بالقول " هذه كذبة ابريل ". وبذلك انتهت حكاياتي الليبية باقتناص تصريح مقتضب من صاحب النظرية العالمية الثالثة ، لم يتجاوزثلاث كلمات، تصدر في اليوم التالي الصفحة الاولى لصحيفة " الشرق الاوسط". وبعيدا عن تلك الايام ،ها هي طرابلس اليوم لا تكف عن رواية حكايات من زمن القذافي وما بعده، وليس أمامي من مفر الان سوى التصالح مع اللون الاخضر وطرابلس بعدما أصبح لها طعم ورائحة.. وروح ايضا.