ترتبط الحناء في المغرب بالفرح، فهي مرادفة للمناسبات السعيدة مثل الأعياد الدينية والأعراس وحفلات الزواج وغيرها. وفي السنين الأخيرة خرجت الحناء من البيوت وصالونات التجميل، لتعانق الفضاءات الرحبة في الشوارع والمواقع الأثرية والأماكن السياحية، مثل ساحة جامع لفناء في مراكش وقلعة الأوداية بالرباط، وشاطئ البحر بأكادير، وفي ساحة محمد الخامس بالدارالبيضاء. فتيات في عمر الزهور اتخذن من النقش والوشم بالحناء حرفة يمارسنها كمصدر رزق لتمويل دراستهن وإعالة أسرهن، ويطلق عليهن في المغرب "النقاشات" (أي أن مهنتهن هي تخضيب اليدين والرجلين بمادة الحناء). طالبة البكالوريا بين أسوار قلعة الأوداية بالرباط مثلا، يثير انتباه الزائر وجود صبايا صغيرات يتنقلن وسط أفواج السياح بخفة ورشاقة مثل الفراشات، محملات بمعدات وأدوات النقش، وهي في الغالب عبارة عن ابر معدنية مثل تلك التي تستعمل في الحقن الطبي، يتم حشوها بخليط من مسحوق الحناء. لمياء، طالبة في قسم الباكالوريا، تحكي قصتها: "تعلمت النقش بالحناء على يد والدتي، ومنذ أكثر من اثني عشر سنة وأنا أمارسها. أحاول الجمع بين الدراسة والعمل لضمان مردود مادي يعينني على استكمال تعليمي. وقد أتاح لي التعامل مع السياح اكتساب العديد من اللغات، مثل الإيطالية، والإسبانية، إضافة إلى الفرنسية طبعا". ما هي حصيلة المدخول اليومي؟ لمياء لا تملك جوابا محددا، تكتفي بالقول " لكل يوم رزقه..." ! سائحات غريبات الأطوار تحت أشعة شمس الصباح في ساحة جامع لفناء بمراكش كانت الفتاة عائشة ش، منهمكة في وضع اللمسات الأخيرة على نقش رسوم ورموز فنية بالحناء على كتف سائحة أجنبية تبدو سعيدة بالتجربة. بعد الانتهاء سألنا عائشة: " لماذا تخضيب كتف السائحة، وليس اليد أو الساق، أو القدم، كما جرت العادة بذلك؟" ردت ضاحكة، وهي تعد النقود التي حصلت عليها من وراء هذه العملية: "لكل سائحة ذوقها الخاص، ولايمكن لي سوى أن احترم رغبتها. وثمة سائحات غريبات الأطوار يفضلن وضع نقوش الحناء على بطونهن، أو أسفل ظهورهن أو على أردافهن وصدورهن في شكل عقارب أو ثعابين أو تماسيح أو سهام الحب أو أبراج الحظ أو التنين. في الأول كنت أتردد أو أعتذر بلطف عن الانصياع لطلباتهن، لكنني الآن أصبحت معتادة على ذلك، نظرا لاحتياجي الشديد إلى مدخول لمواجهة احتياجاتي الشخصية من لوازم وكتب مدرسية. وما يفيض عن نفقاتي أمنحه لوالدتي لتدبير شؤون البيت، بعد وفاة والدي في حادثة سير منذ ست سنوات." دولار أمريكي وأورو أوربي ... "الحالة مستورة والحمد لله." هكذا تقول لنا الفتاة لبنى، وهي تمازح إحدى زميلاتها، وعيونهن جميعا تلاحق موكبا سياحيا، كان يمر في تلك اللحظة، ثم انصرفن راكضات وراءه، عارضات على السائحات خدماتهن، من خلال دليل مصور يتضمن مختلف تصاميم النقش بالحناء بكل أنواعها ورموزها. "تختلف أسعار النقش باختلاف وطبيعة وحجم الشكل المراد إنجازه، هناك النقش الفاسي والخليجي والهندي والرباطي والصحراوي." - تقول الصبية إيمان - وتتراوح الأثمان بما يقدر بحوالي 3 دولارات أمريكية أو خمسة فما فوق، وقد تصل إلى 20دولارا، وفي بعض الأحيان تكون أريحية السائحة أكثر كرما ..." - هل تتعاملن بالدولار، وترفضن الدرهم المغربي، العملة المحلية؟ " نحن نقبل الدولار الأمريكي، والأورو الأوربي، وأي عملة نقدية أخرى، ونقبل الدرهم المغربي طبعا، إلا أن بعض السائحات قد لا يتوفر لديهن الصرف فلا نريد إحراجهن، ونتولى نحن فيما بعد القيام بتحويل العملة الأجنبية إلى الدرهم المغربي ..." شكرا مادونا ذات يوم ظهرت المطربة الأمريكية مادونا في شريط "فيديو كليب" بيدين مخضبتين بالحناء. "هذه الأغنية جعلت بعض الأمريكيات يقبلن على الحناء، في محاولة منهن للتشبه بها. شكرا مادونا". تقولها رشيدة باللغة الانجليزية "Thank you". - كيف تتم عملية تحضير خلط مسحوق الحناء؟ تجيب فاطمة قائلة : "إن ذلك يتم في البيت من خلال مزج مسحوق الحناء بقليل من الماء، وخلطه بعصير الليمون الحامض، والقرنفل وقد يضاف إلى هذه الخلطة، وفق مقادير معينة، بعض السكر، مما يضفي نضارة على الوشم، ويزيده بهاء وجاذبية وجمالا وإغراء فاتنا على الجسد." حالة " أسماء " بعض الفتيات اللواتي انقطعن عن الدراسة لسبب من الأسباب غدون محترفات ومتفرغات لمهنة النقش بالحناء، مثل حالة أسماء التي تقول: " تكالبت على عائلتي بعض الظروف المادية القاهرة، التي يطول تبيان شرحها فاقترحت علي إحدى بنات الجيران مرافقتها ذات يوم،إلى مكان في مدينة الدارالبيضاء يرتاده السياح بكثرة، وعلمتني أصول حرفة النقش بالحناء، فأصبح لدي دخل مادي انتشلت به عائلتي من الضياع ..." الدرهم الأبيض لليوم الأسود يرتفع الإقبال على الوشم والتخضيب بالحناء بالخصوص خلال ازدهار الموسم السياحي في شهور الربيع والصيف. "في هذه الفترة بالذات، نشتغل ساعات إضافية في المساء لتوفير مدخرات تنفعنا في باقي فصول السنة، عملا بالقولة الشهيرة :" الدرهم الأبيض ينفع في اليوم الأسود"، أي في اليوم الذي لا شغل فيه وبالتالي لا مورد فيه." تقول سناء، كأنها تتحدث بلسان جميع زميلاتها اللواتي كن متحلقات، ورسمن بوقوفهن دائرة صغيرة حول مندوب موقع "مغارب.كم"، رغم أن الغالبية منهن رفضن التصوير والكلام أو الإفصاح عن أنفسهن وأسمائهن كاملة: "إننا نخاف من السلطة التي لا تسمح لنا أحيانا بممارسة هذه المهنة، بدعوى أنها غير منظمة أو مهيكلة في إطار قانوني أو مهني معترف به رسميا، وهذا من أحد مصادر تعبنا ..." توضح إحداهن، وهي تغطي رأسها ووجهها بغطاء جلبابها، مخافة ضوء عدسة الكاميرا، قبل أن تقول: "لا أريد نشر اسمي الكامل أو صورتي في الصحافة، اتقاء لأي شيء محتمل ..." تضيف بنبرة صوت حاد،وهي تلفت حولها في قلق واضح يلتمع في عينيها.