إذا جاز إطلاق نعت عام لوصف ما يحاول مشروع الدستور المعروض على استفتاء الشعب (أول يوليو «تموز» المقبل) القيام به لقلنا إنه: التأسيس لدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية. إرادة الدستور المغربي المقبل (متى تم إقراره، وقرائن الأحوال تشي بأن الأمر سيكون كذلك) هي إرساء معالم الدولة المدنية المغربية الحديثة. تتجلى هذه الإرادة منذ الجملة الأولى من الديباجة: «إقامة مؤسسات دولة حديثة مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة (..) تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية (..) التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة». وفي الديباجة ذاتها تأكيد جازم لحماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني من جهة أولى، ومواءمة التشريعات الوطنية مع هذه التشريعات الدولية، في نطاق أحكام الدستور المغربي، وهذا من جهة ثانية. لست أستاذا للقانون الدستوري، بل لا صلة مهنية لي بالقانون بمختلف فروعه وإنما مجال درسي واهتمامي هو الفكر السياسي، غير أنني أملك أن أقول إن في مشروع الدستور المغربي علامات قوية، دالة، على تشييد الدولة المدنية، أو قل إذا شئت الدولة الحديثة (من حيث إن الدولة في زماننا المعاصر لا تملك أن تكون دولة حديثة على الحقيقة إلا متى كان عمادها ومرتكز الآليات التي تعمل بموجبها هو الدولة المدنية). ربما أمكننا تعداد أكثرها أهمية على النحو التالي: التأكيد على الحريات العامة ووضع معايير صارمة لاحترامها، والحرص على المساواة في الحقوق والواجبات السياسية بين الرجل والمرأة، والحرص على حضور المرأة، من خلال تمثيلية واضحة، في مختلف الهيئات العليا (بما في ذلك السلطة القضائية). تعيين واضح لسلطات الملك ومجالات اختصاصه وكذا علاقته مع السلطتين التنفيذية والتشريعية. الحرص، خلال ميكانيزمات وتشريعات لعمل البرلمان والهيئات واللجان المتفرعة، على استقلال السلطة التشريعية. ثم، وهذا أمر بالغ الأهمية تمكين الأقلية - داخل البرلمان بغرفتيه - من آليات لا يكون بها وجودها معها صفرا أو خلوا من التأثير، بل إن حضورها في اللجان يكون شرطا، لا بل إن رئاسة لجنة تشريع القوانين ترجع إلى الأقلية وجوبا. وغني عن البيان أن في النظر إلى الأقلية، داخل الممارسة الديمقراطية، دفاعا فعليا عن الديمقراطية وتجلية لها ما دامت الديمقراطية جسما يمشي على رجلين إن تكن الأغلبية إحداها فإن الرجل الأخرى هي المعارضة وإلا اختلت الموازين وكانت الديمقراطية عرجاء، شوهاء، تتعثر في مشيها وتفقد معناها. من تجليات إرادة التأسيس للدولة المدنية أيضا الحرص على الإشراك الفعلي للأحزاب في الحياة السياسية (وهذا تحصيل الحاصل) لكن الأساس هو حماية الوجود الفعلي للحزب السياسي من عنت السلطة التنفيذية إذ النظر في تجاوزات الحزب السياسي والدعوة إلى حله لا تكون إلا للسلطة القضائية وحدها. وقد نضيف، والقائمة غير حصرية بل إنها في حديثنا انتقائية، الفصول الطويلة المتعلقة بإحداث هيئات التشاور وإشراك الفاعلين الاجتماعيين (الشباب، المرأة، الرياضة، أصحاب الحاجات الخاصة..) وإقامة اعتبار للمجتمع المدني ومشاركاته المتنوعة في الشأن العام. هل يتوافر مشروع الدستور المغربي المقبل على كافة الآليات القانونية والضمانات الحقوقية اللازمة لقيام الدولة المدنية الحقة؟ سؤال لا أملك الإجابة عنه - كما أسلفت الإشارة إلى ذلك - فتلك قضية يطيقها فقهاء القانون الدستوري دون غيرهم. غير أني أوجه الانتباه إلى ما أعتبره علامات دالة، وما يعنيني في حديث اليوم، هو الشق الثاني المتعلق بالمرجعية الإسلامية. هنالك سؤال عسير، أقول مسبقا إن الجواب عنه مما لا يمكن في حديث مقتضب أو في مقام قولنا، هو ذاك المتعلق بمدى النجاح أو المواءمة بين الدولة المدنية (ومصدرها القانون الوضعي والتأكيد على آدمية السلطة السياسية والوجود البشري للبشر) وبين الدين عموما، والدين الإسلامي بالنسبة لنا خاصة. أود أن أنبه إلى أن مشروع الدستور المغربي، منذ الديباجة أيضا، وفي صورة خيط أحمر يخترق فصوله جميعا تأكيد لإسلامية الدولة المغربية (الهوية المغربية تتميز بتبوؤ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها) (الديباجة). والملك «أمير المؤمنين وحامي الملة والدين». والمجلس العلمي (الديني) الأعلى إحدى الهيئات الكبرى في الوجود المغربي، وفي الدستور أولا، وتمثيلية المجلس المذكور شرط صحة في تكون المحكمة الدستورية العليا، وفي تشكيل السلطة القضائية (المجلس الأعلى للسلطة القضائية). والمجلس العلمي الأعلى هو «الجهة الوحيدة لإصدار الفتاوى بشأن المسائل المحالة عليه» (وهذه إضافة جديدة أو، بالأحرى، حدث جديد في التشريع الديني في المغرب تستوجب رجوعا إليها). وبالتالي فإن للدين الإسلامي دوره الأساسي ومكانته الفعلية في الوجودين السياسي والاجتماعي، في المغرب. إن الدستور بطبيعته، يرسم الكليات والمبادئ السامية، فهو، بالنسبة للقوانين والتشريعات، أشبه ما يكون بالروح بالنسبة للجسد. كما أن الآليات القانونية هي ما يكسب الجسد السياسي القدرة على الحركة والفعل، والترجمة الفعلية (التأويل) تكمن في الجزئيات والتفاصيل. وبالتالي فإن التعبير الفعلي عن «روح القوانين» (حتى نستعيد عبارة مونتسكيو، من حيث هي تدل على الدستور أو الميثاق الأسمى) يكمن في التشريعات والقوانين التي تنظم الحياة اليومية.