كيف يمكن أن نقرأ بوادر حل قضية الصحراء من خلال استشفاف رؤية واضعي مسودة الدستور الجديد سواء على المستوى البعيد أو القريب؟ وهل كان واضع المراجعة الدستورية، مستحضرا سياق المفاوضات الجارية بين الطرفين؟ وإلى أي حد يمكن الحديث عن انسجام الرؤية الاستراتيجية المغربية في استشرافها "للحل النهائي" مع البنية الدستورية المرتقبة؟ وقبل المرور لمناقشة هذا الموضوع من خلال تأمل وثيقة المراجعة، سنحاول في هذا الجزء الأول التمهيد لذلك من خلال وضع عملية المراجعة في سياقها العام، وتمييز أهم الإشارات العامة المستشفة على المستوى المفاهيمي والاصطلاحي. -المراجعة الدستورية؟ أي سياق وأي وظيفة؟ لا ينصرف البحث في كواليس كتابة مشروع مراجعة الدستور إلى المراجعين اللغويين الذين نقحوا الوثيقة على المستوى اللغوي، بل يتجاوز حتى اللجنة التي كتبت الدستور بماتمثله كفاعل يسهم في صياغة الوثيقة من خلال التعاطي مع المطالب، وفهمها وتكييفها وتصفيفها مع رؤية الفاعل الأول في المجال وصاحب سلطة القرار ومحدد مجال الإشتغال وسقف التغيير. تتركز قراءة سياق عملية المراجعة إلى البحث في العوامل السياقية البنيوية والموضوعية التي أسهمت في صياغة هذه المسودة، والظروف والعوامل والقوى والفاعلين المباشرين وغير المباشرين المسهمين في عملية المراجعة. فكيف يمكن أن نقرأ من خلال طبيعة اللغة التي كتبت بها المسودة الدستورية، وطبيعة الاصطلاحات والمفاهيم التي ظهرت واستبدلت بها غيرها؟ بهذا المعنى تمثل عمليات المراجعة، تلك العمليات الجراحية التي يقيمها المشرع الدستوري على جسم الوثيقة، والتي تحيل الباحث على الإضافات الجديدة، والهواجس التي جعلت المشرع الدستوري، يقوم بمراجعة باب أو فصل أو مؤسسة دستورية. ونميز هنا بين الفاعلين الرسميين وغيرالرسميين، الخارجيين والداخليين، السياسيين وغير السياسيين، رغم ما يعترض هذه التمييزات من غبش، يسهم فيه تداخل الحقول وتنوع الأدوار، وتنازع أشكال الشرعنة التي يعرفها النظام السياسي في الدول العربية، لكن تبقى هذه التمييزات مهمة في توضيح أشكال التأثير ودرجات الإستجابة التي يقيمها صانع القرار للمطالب. لاتعبر الوثائق الدستورية عن التوازنات السياسية الراهنة أو عن خارطة اللعبة السياسية وأشكال التوافقات التكتيكية فقط، بل تتجاوزه إلى استشراف الآفاق المستقبلية للنظام السياسي والمسار الذي ينتخبه واضعو الدستور لمستقبل بلد معين. وداخل جسد الوثيقة الدستورية يحضر التكتيكي باستعجاليته التي تضطر مؤلف الدستور إلى مراعاته، والإستجابة إليه بالقدر الذي يحافظ من خلاله على وجوده، ويحضر من جهة أخرى الاستراتيجي بالقدر نفسه في الدستور، لدى الأنظمة التي تهتم لشعوبها ولمستقبلها. ومن جهة ثالثة تحضر داخل أي عملية مراجعة جوانب تقنية يتم من خلالها مراعاة المقترحات الفقهية وتوجهات الاجتهادات القضائية، وتدارك المعايب التي أبرزتها الممارسة الدستورية للوثيقة الجاري بها العمل. وفي هذه الجزئية سنحاول التركيز على دور الفاعل الخارجي في التأثير على واضع الوثيقة الدستورية، منتخبين في ذلك المسار التفاوضي في قضية الصحراء كمجال أساسي للاشتغال في حقل السياسية الخارجية، وفي العلاقة مع المحيط الخارجي. - مسودة الدستور: مصطلحات جديدة لمفاهيم جديدة؟ جاءت المسودة الجديدة بتوظيف خاص لمفاهيم الوحدة الوطنية ووحدة الأمة، والتي تؤشر لرؤية جديدة في التعامل مع الحساسيات الثقافية والعرقية المختلفة داخل البلاد، ورغم أن الدور الداخلي الكبير للحركات الإجتماعية، سواء منها الأمازيغية أو الصحراوية كان مهما في صياغة هذه المفاهيم والتدليل عليها دستوريا، فإن توظيف مصطلح الحسانية والصحراوية، لا يشير بشكل واضح إلى المناطق الداخلة في النزاع فقط، بل يتجاوزه إلى مجال جغرافي وثقافي يمتد من المناطق الشرقية إلى الجنوبية في دائرة أوسع وأشمل مما قد يتبادر إلى الذهن وبما يوحيه التأكيد على هذه المقوماتية الهويتية للدولة التي أكد عليها التصدير، والتي تسهم في إعطاء الوثيقة الدستورية قدرة أكبر على الصمود أمام المتغيرات المحتملة. على مستوى آخر حافظ الدستور المراجع على مركزية إمارة المؤمنين، وعلى بعدها الديني، وخلافا للفصل 19 الحالي، الذي يدمج الوظائف الدينية والرئاسية للملك، جاءت المسودة الجديدة بفصلين اثنين بدل الفصل 19، الفصل 41 و42، اللذين تميزا بفضهما الاشتباك الحاصل، من خلال تحديد الطبيعة المزدوجة للمؤسسة الملكية. إلا أن الملاحظ في هذا التعديل هو إلزام الملك صراحة كرئيس للدولة باحترام التعهدات الدولية، حيث نجد في الفصل 42 أن الملك كرئيس للدولة، يلتزم بالعمل على احترام التعهدات الدولية للمملكة، وهذا ما يعني أن التفريق الذي أوقعه الدستور بين الوظيفتين الدينية والسياسية للملك، أوضح طبيعة موقف النظام السياسي من المحيط الدولي، وموقف الدولة من انتماءاتها الإقليمية والدولية. ورغم أن الفصل 41 حاول أن يجعل من مؤسسة المجلس العلمي الأعلى تمثلا ملموسا لإمارة المؤمنين، إلا أن الإبقاء على مصطلح ومفهوم إمارة المؤمنين نفسها، يفتح الباب مشرعا أمام التكييفات القانونية وأمام الممارسة الدستورية نفسها، والتي تجعل للمجال العرفي في الدستور المغربي اليد الطولى في تفسير الوثيقة وفي مراجعتها، فالشرعية المنبثقة عن إمارة المؤمنين، والمرتبطة بإسلامية الدولة، تجعل للبعد الديني مكانة مركزية في النسق السياسي المغربي، وتفتح أبوابا متعددة للتأويل الدستوري المنبثق عن هذه الشرعية التي تظل دوما متعالية على الشرعية القانونية نفسها. في تفصيلها للجوانب المتعلقة بمأسسة إمارة المؤمنين، حاولت المسودة أن تنأى بنفسها عن الإشارة إلى الارتباط الحاصل بين البعد الديني للشرعية والأبعاد الإقليمية والترابية للدولة، حيث اقتصرت المادة 41 على الجوانب الدينية البحتة، وتركت الجوانب المتعلقة بما أسمته الوثيقة وحدة الأمة للفصل 42. هذا التصور الجديد، ستنضاف إليه أحكام جديدة أقرتها مقتضيات المسودة لتضع مكانة مهمة للبعد التشاركي في ما يتعلق بالقضايا الحدودية والترابية وإخضاعها للمساطر التي يقرها الدستور فيما يخص المعاهدات الدولية، والتي تتميز بتقوية حضور البرلمان في مسطرة المصادقة. * باحث في علم السياسة يتبع..