في لقاء خاص بمناسبة إصدار الطبعة العربية لسيرته الذاتية، والتي عنونت باسم «ذاكرة ملك»، قام العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني باستقبال عدد محدود من المثقفين العرب، وتبادل معهم بعض الآراء والأفكار، وفي الختام ود اختصار فكرة جوهرية لينهي بها اللقاء، فقال: «لا يهمنا العالم الذي سنتركه لأبنائنا، لكن المهم هم الأبناء الذين سنتركهم لهذا العالم». وأعتقد جازما أن الملك الحسن الثاني سيكون فخورا جدا بابنه اليوم، الملك محمد السادس، وهو يقدم لشعبه ومملكته نقلة دستورية تاريخية ستكتب عمرا جديدا للمستقبل السياسي المغربي تحديدا والعربي عموما. لقد قدم العاهل المغربي لحظة «الماغنا كارتا» العربية الحديثة، وهي الوثيقة الإنجليزية السياسية العريقة المعروفة، والتي قدمت في عام 1215م، لتنظيم علاقة الحكم الملكي مع الشعب والمؤسسات المساندة، واعتبرت أهم مرجعية سياسية عصرية بنيت عليها فكرة الحكم المؤسسي المدني وقتها. وبكل حكمة وذكاء ووعي قرأ العاهل المغربي الأحداث والتغييرات حوله جيدا، واعتمد على الآراء والنصائح الصادقة المخلصة من حوله، وتجرد عن حسابات شخصية ورؤى قديمة، وقدم فكرة وطنية سياسية جديدة تتعلق بإطلاق دستور جديد يعيد صياغة العلاقة بين الملك والحكومة والمؤسسات والشعب بشكل غير معمول به من قبل.. فهو «يحترم» بجدارة رأي الشعب، وينقل ويترجم هذا الرأي مترجما إلى تمكين سياسي حقيقي، ويعطيه الحق المكتسب برلمانيا بتشكيل الحكومة وتشريع السياسات. وكذلك يخطو الملك ببلاده خطوات هائلة نحو العدل والمساواة بين أبناء وبنات الوطن، فيؤكد أنه لا مجال للتفرقة، وبحماية الدستور، بين أبناء الوطن بغض النظر عن انتماءاتهم المناطقية أو العرقية، وهي قفزة حقوقية نوعية لا يزال يقع فيها كل نظام عربي بامتياز، واعتمد في هذا الأمر على مرجعية حقوقية إسلامية معروفة في المغرب وهي فكرة مقاصد الشريعة التي توسع فيها المذهب المالكي توسعا كبيرا وقدم تشريعات مهمة ولافتة في مجالات الحقوق الشخصية وعلاقات الأسر وحقوق الطفل والمرأة والعلاقة مع الآخر المخالف، وهي كلها أفكار «إسلامية» تتقدم بمراحل عما تطرحه الأحزاب المعارضة التي تحمل لواء الدين الإسلامي، والتي تعتمد في قراءتها لأحكام الدين على نظرة ضيقة جدا ونصية بحتة بلا تقدير لروح النص ومقصد الشارع، فيبقى الطرح جامدا ولا علاقة له بالواقع. الثورة ليست هي الهدف، ولا يجب أبدا أن تكون، لكن الإصلاح يبقى هو أسمى الأهداف المنشودة، والملك المغربي يقدم درسا جميلا للحكومات العربية وهو كيف يمكنها بقراءة حكيمة واستباقية أن تنال الرضا والاستحسان وتحقق مطلب جمهورها وتعتمد في طرحها على نهج إسلامي بحت ولكن بقراءة ميسرة ومرحبة وعصرية ومتسعة، وهو ما غفلت عن فعله الأنظمة التي سقطت والتي تترنح بقوة. إن ما قدمه الملك المغربي في خطابه التاريخي لشعبه يفوق بكثير ما تحقق حتى اللحظة من إنجازات لثورتي مصر وتونس اللتين لا تزالان غارقتين في الجدال والتشكيك والتخوين، ولم تتحركا بشكل جدي وعملي للأمام لأجل حصاد الثورة وبناء المستقبل، وهو ما يولد نزعة الشك في ما أنجز، وكذلك يؤسس لمرحلة الخوف وفقدان الأمل مجددا. ولعل أبلغ تعبير عن نجاح خطاب الملك هو رد الفعل الشعبي العفوي الصادق بالتأييد والمباركة لما جاء في الخطاب، وهو ما اضطر رموز المعارضة إلى التراجع عن موقفهم المتحفظ الأولي كتعليق على ما جاء في الخطاب، واعتبروا أن ما جاء فيه هو «متأخر» و«غير كاف»، وهو طرح عقيم وسخيف، لأن ما جاء في الخطاب هو حقيقة ثورة دستورية وإصلاحية كاملة تمس الكثير من النقاط والمسائل الحساسة، ومن الممكن جدا البناء عليها، وهو ما جعل الأصوات التي اعترضت على الخطاب بشكل «فوضوي» تختفي بعد أن أصدرت الأحزاب بيانا رسميا يؤيد الخطاب وتوجه البلاد الجديد، لأن الأحزاب أدركت أيضا أن الحس الشعبي العام مؤيد وبقوة كبيرة لما جاء في كلمة الملك التاريخية. ليست مبالغة ولا تهويلا في الكلمات أن يوصف خطاب الملك المغربي بأنه ثورة ملكية مضادة، وحراك سياسي راق، وقراءة استباقية محترفة، وحس حاكم مسؤول يستحق عليه الإشادة والتهنئة والتشجيع، لما فيه من تجرد من الأنانية ولمس لنبض الشارع. قد يكون من تبسيط الأمور أن يتم «تجيير» هذا الخطاب لما قام به الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي كان شرارة الربيع العربي، لكن على الأقل فالعاهل المغربي لم يقف على منبر الخطابة ليقول لشعبه وللعالم إن المغرب ليست بمصر ولا تونس ولا ليبيا ولا سوريا ولا اليمن، لكنه بما فعله كتب تاريخيا سياسيا مشرفا يستحق عليه التقدير.