"الشرق الاوسط" القاهرة: هيثم التابعي لم يكن عبد الخالق السيد، المسعف المصري البسيط يتوقع أن تتحول رحلته الإنسانية إلى الأراضي الليبية إلى كابوس قد يصعب التخلص من آثاره ما تبقى له من عمر. فبعد إجباره من قبل النظام الليبي على الظهور عبر شاشات التلفزيون وإعلان انتمائه لتنظيم القاعدة، قضى نحو أربعين يوما «حالكة السواد»، على حد تعبيره، محتجزا داخل أحد السجون. وكما تم إلقاء القبض عليه دون أسباب، أخلي سبيله فجأة أيضا ودون أسباب. ولكن عبد الخالق تحول خلال تلك الأيام إلى شخصية شهيرة إعلاميا، حيث اهتمت وسائل الإعلام المختلفة بمتابعة أخباره حتى لحظة وصوله إلى مصر، كونه أحد أشهر الأسرى لدى النظام الليبي. وفي غرفة المعيشة البسيطة بمنزله بحي السلام الشعبي (شمال القاهرة)، وتحت آية قرآنية كبيرة تتوسط الجدران، بدأ عبد الخالق في سرد قصته ل«الشرق الأوسط»، بينما بدا الإنهاك على كل ملامحه، واصفا تلك الفترة من حياته بأنها الأقسى والأكثر إهانة في تاريخه. ويقول عبد الخالق، الطالب في السنة النهائية بالمدرسة الثانوية الفنية للتعليم المزدوج في القاهرة، إنه غادر إلى ليبيا ليلة 24 فبراير (شباط) الماضي ليعمل مسعفا في حملة طبية خيرية، متحديا ظروف المعركة الدائرة في ليبيا، التي قد لا يعود منها حيا. ولم يصده عن ذلك أن «جيوبه خاوية» إلا من 15 جنيها (نحو دولارين) فقط، ولكنه أكد أن إيمانه بدوره كمسلم أولا وكعربي ثانيا جعله يوقع شهادة وفاته بينه وبين نفسه. وعقب ورود أنباء احتجاز عبد الخالق إلى أهله في القاهرة، أكد والده سيد عبد الخالق أنه تمنى لابنه الشهادة، رأفة به مما كان يعلم أنه يتعرض له على يد جلاديه، قائلا «احتسبته عند الله شهيدا»، واصفا حال بيته أثناء غياب ابنه الأكبر بالكئيب. ولكن عبد الخالق الأب، الذي يفتخر بانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين والذي قضى فترة من عمره سجينا بسجن طرة، قال إنه لم ييأس أبدا من رحمة الله به. ويحكي عبد الخالق أنه اعتقل في بن جواد، وليس راس لانوف كما ادعى النظام الليبي. ثم تم تجريده من ملابسه المدنية ليعطوه بزة عسكرية، ليبدو وكأنه من الثوار. وتعرض عبد الخالق لثلاثة أيام متواصلة من التعذيب، حتى يرضخ للظهور على شاشات التلفزيون، ويقول ما سمعه ورآه الناس من أنه ينتمي ل«القاعدة». ولم ينس عبد الخالق أن يكرر تأكيده بأنه لم يحمل السلاح أبدا، والشيء الوحيد الذي ضبط معه كان شحنة الأدوية التي كان ينقلها إلى مستشفى بن جواد. وأضاف عبد الخالق أنه تم اقتياده لسجن سرت، حيث قضى 14 يوما تحت الأرض مكبلا من رجليه ويديه على سريره الحديدي في زنزانة الإعدام، التي يبلغ ارتفاعها أربعة أمتار وعرضها لا يزيد على المترين. وزاد قائلا «كنت أقضي حاجتي نائما، وكنت أشتم رائحة الجثث المتعفنة من حولي في كل مكان». وتتحفظ «الشرق الأوسط» على ذكر تفاصيل حفلات التعذيب القاسية والمروعة والمتواصلة التي تعرض لها عبد الخالق، بناء على طلبه الشخصي، والتي تركت أثرا قاسيا سيبقى كثيرا على جسده النحيف، وأثرا أكثر عمقا بروحه. وأضاف عبد الخالق أنه خلال أسبوعين، كان محروما من الماء والطعام باستثناء تفاحة كانت تعطى له يوميا ليبقى جسده قادرا على تحمل المزيد من التعذيب، لكنه أكد أنه لم يتمن الموت أبدا، وقال: «كلما عذبت أو نزفت تزيد حسناتي ومقامي عند الله». أبشع ما حكاه عبد الخالق، الذي يتكلم اللهجة الليبية الآن بطلاقة شديدة، كان حينما تم قطع رأسي زميليه المصريين في «مكان الذبح»، ثم أرسل إليه رأساهما في زنزانته في صينية على سبيل الترهيب. وهو المشهد الذي يقول عنه عبد الخالق «بكيت كما لم أبك، وشعرت أننا فعلا بلا كرامة». ولكنه استدرك أن المصريين لا يتعرضون للتمييز في سجون العقيد، لأن كل الجنسيات تتعرض للتنكيل الشديد، مبرزا أن جلاديه من جنسيات مختلفة، وبينهم شخص مصري الجنسية يدعى «الطباخ». ولكن «بقايا» الإنسانية في قلوب جلادي سجون العقيد القذافي، الذي وصفه عبد الخالق ب«الجزار»، دفعت السجان لكي يمنح السجين هاتفه الجوال حتى يجري مكالمة بوالدته يطمئنها عليه. وهي اللحظة التي وصفها عبد الخالق بأنها كانت أفضل لحظاته في ليبيا على الإطلاق. ثم تم نقل عبد الخالق للسجن المفتوح، حيث قضى به أسبوعا، ضمنها ثلاثة أيام من التعذيب المتواصل، حيث تصل إلى مسامعه صرخات الآخرين طوال الوقت. ويروي عبد الخالق متأثرا كيف كان جاره في الزنزانة أصبح يحدث نفسه من شدة التعذيب، بينما عذب آخر لأن تهمته هي مشاهدته قناة «العربية». وخلال فترة احتجازه، تنقل عبد الخالق بين ثلاثة سجون أخرى هي إنذارا، والبحث الجنائي، وأجدايدا، وخلالها خضع للتحقيق من النيابة، حيث اعترف بكل التهم الموجهة إليه حتى ينتهي عذابه. ولكن المحقق مدد حبسه مدة 6 أيام لمرتين أخريين قضاها في سجن أجدايدا في طرابلس، ثم عاد المحقق ليفرج عنه ولكن القاضي استأنف ليتم ترحيله لسجن الإعدام في طرابلس، الذي يصفه بأنه سجن «5 نجوم» وبه كل الأجهزة الكهربائية الممكنة. وهو السجن الذي شعر فيه بالقصف الجوي على طرابلس، حيث كان باب زنزانته يرتج بشدة من شدة القصف. وبعد أيام عاد مرة أخرى إلى سجن أجدايدا. ودون سابق إنذار، أفرج الأمن الخارجي الليبي عن المسعف المصري الذي تم تسليمه للسفارة المصرية، لتنتهي رحلة الأربعين يوما الطويلة والقاسية في حياة عبد الخالق، والذي أكد ل«الشرق الأوسط» أنه سيعاود مغامراته مجددا متى احتاج أي بلد عربي للمساعدة، حتى لو كانت الوجهة هي ليبيا مرة أخرى. ولم ينس عبد الخالق، الذي صار يشار إليه بالبنان في حيه كبطل شعبي، أن يوجه الشكر لوزارة الخارجية المصرية لدعمها لقضيته، وخص بالشكر أعضاء السفارة المصرية في طرابلس، ولكنه حثهم على استعادة بقية الأسرى المصريين في سجون القذافي.