خفف فوز الاشتراكية "آن إيدالغو" بعمدية العاصمة الفرنسية باريس، من وطأة النكبة الانتخابية التي لحقت بالحزب الاشتراكي، أمس الأحد، إذ فقد كثيرا من المدن والمعاقل التاريخية للاشتراكية الفرنسية على مدى عقود، اقتربت من قرن. ويعتبر فوز المحامية، ذات الأصول الأندلسية الحاملة لجنسيتين، مؤشرا وعلامة على تحول عميق في المجتمع الفرنسي، لا يسير حتما ودائما وفق خط مستقيم، أو منحن،فقد كشفت نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، أن الحزب الاشتراكي فقد شعبيته في المناطق الحضرية حيث تتجمع الطبقات الشعبية والمتوسطة،التي شكلت على مدى عقود القوة الانتخابية الداعمة للحزب، لكن الناخبين غيروا ولاءهم يوم الأحد الماضي بصورة قطعية،لصالح اليمين التقليدي والمتطرف، تعبيرا عن نقمتهم على الاشتراكيين، واحتجاجا على نتائج ولاية الرئيس "فرانسوا هولاند" الذي لم يف بعهوده من وجهة نظر الغاضبين عليه. عبر "الغاضبون" بوسيلتين متعارضتين ظاهريا: منح الأصوات لمرشحين آخرين، بمن فيهم أنصار الجبهة الوطنية المتطرفة، أو بالمكوث في بيوتهم، غير عابئين بنداءات الاستغاثة التي أطلقها الحزب الاشتراكي، طوال الاسبوع الماضي، لمنع حدوث الكارثة. ويعد فوز أول سيدة من أصول أجنبية بمنصب عمدة أكبر واشهر مدن في فرنسا والعالم، يتجذر فيها اليمين بثقافته وتقاليده وأعرافه ورموزه الكبيرة، دليلا إضافيا على تراجع الإيديولوجيا الواقعية او الحالمة،أمام ثقافة "الاستحقاق" والحكامة والنجاعة في التدبير، والإصغاء إلى نبض المجتمع التي بات يمثلها جيل جديد من المناضلين "البراغمانيين"، بينهم العمدة الجديدة لباريس؛ المهاجرة وابنة أب عامل كهربائي بسيط، وأم خياطة من الأندلس (ضواحي قادس) حيث ولدت والتي انتصرت على قائمة منافستها "ناتالي موريزي" الشقراء ذات الملامح الارستوقراطية،وزيرة البيئة في ولاية "ساركوزي" وقف اليمين بكل آلاته وقواته إلى جانبها، لما ترمز إليه العاصمة باريس، الممهدة، حسب ما رسخ في المخيال السياسي، إلى أبهة قصر الإليزيه. ومن المؤكد أن المحامية المكلفة السابقة، بملف التعمير، البالغة من العمر 55 ربيعا، العاشقة مثل الأندلسيين لموسيقى الفلامنكو وأكلة "الباهيا"وبهجة الحياة؛ لا يراودها ذلك الحلم في الظرف الحالي، بل ولربما تفكر في رئيسها ومكتشف مواهبها القيادية أي العمدة المنتهية ولايته، "برتراند دو لانوي" الذي رشحته التوقعات عشية الإعلان عن النتائج لرئاسة الحكومة الجديدة، على اعتبار أن تجربة تدبيره الناجح لشؤون العاصمة، مدة 13 سنة، يمكن أن تصلح لمعالجة مشاكل فرنسا. نجاح العمدة السابق الذي ساهم إلى حد كبير في نصر "إيدالغو" ليس راجعا للإيديولوجيا الاشتراكية وحدها، بقدر ما يعود إلى دينامية الفريق الذي قاده دون أن يحدث به أي شرخ أو خلل، حيث استطاع "العمدة" بروحه التوافقية، المحافظة على انسجام المجموعة العاملة وتماسكها.هذا بعضمما ورثته عنه مساعدته الوفية "إيدالغو" التي ضمنت تأييد الاشتراكيين والخضر والراديكاليين وحتى اليسار المتطرف، المخاصم لقيادة الحزب الاشتراكي، المنتقد لسياسات الرئيس هولاند؛ هذا فضلا عن كون الفائزة ليست محسوبة على تيار الرئيس "هولاند" فقد كانت الناطقة باسم منافسته على الترشح الحزبي، السيدة مارتين أوبري، بل إن زوج "آن" هو احد المساعدين الأقربين لعمدة مدينة "ليل" التي استعادت موقعها في استحقاقات يوم الأحد "الأسود " في تاريخ الاشتراكيين الفرنسيين. تشابهت المنافسة على باريس بين سيدتين، بالصراع على كرسي رئاسة الجمهورية. كل مرشحة حرصت على التدقيق في برنامجها الانتخابي،وعرضه وشرحه لسكان العاصمة ثم التفاوض العسير مع الحلفاء خاصة بالنسبة للفارسة الاشتراكية. تم الاتفاق بين السيدتين، الشقراء والقمحية اللون، على إجراء مناظرة غير مباشرة بينهما في التلفزيون، اناحت للاثنتين، التعريف بخططهما للنهوض بعاصة النور.اكتشف الباريسيون، جدية وتواضع المرشحة الاشتراكية ودقة برنامجها وإيمانها بالأفعال أكثر من الثرثرة الكلامية، مع أنها، كما يروى عنها وتقول عن نفسها، قارئة نهمة للكتب وتحديدا للآداب الإسبانية، معجبة اشد الإعجاب بالشاعرين: فيديريكوغارثيا لوركا، ورفائيل البرتي؛ وهما شاعران مناصران للجمهورية، التي تمرد عليها الديكتاتور، فرانكو، ما حمل والدي عمدة باريس الجديدة،على الرحيل إلى فرنسا فرارا من قسوة النظام والوضع الاجتماعي. فرنسا التي أوت العديد من الجمهوريين، اندمجوا في الوطن الجديد، وكدوا وعملوا حتى كسبوا نجاحات وتفوقا في المجالات التي اختاروها. ومن المصادفات أن يكون وزير الداخلية الفرنسي الحالي، مانويل فالس، أحد الوجوه الأكثر شعبية في الحكومة الحالية، ما يرشحه هو الأخر لقيادة الفريق الحكومي المنقذ. كلاهما، هو والسنيورة "آن" الأم لثلاثة أطفال من زواج ثان، لم ينسيا اللغة الإسبانية، لكنهما يحذقان بنفس القدر اللسان الفرنسي وكأنهما لم يغارا بلاد "الغال" وفي هذا السياق، تؤمن السيدة "إيدالغو" بالفكرة التي سمعتها يوما في شكل نصيحة، من مواطنها الراحل الكاتب "خورخي سيمبرون" قال لها إن الإنسان يمكن ان يتقن لغة المنشأ والإقامة، دون أن يحس بتنازع أو صراع بينهما. لا شك أنه اعطى المثال بنفسه حيث تقلد في عهد الاشتراكيين، منصب وزير الثقافة في إسبانيا، تاركا بصفة مؤقتة سحر العاصمة الفرنسية التي عاد إليها بمجرد انتهاء مهمته السياسية في مدريد.