أضحت نسبة كبيرة من المساجد التونسية تحت سيطرة أطراف متشددة ذات خطاب متطرف إبان الثورة التونسية قبل ثلاث سنوات. وتحولت بعض بيوت الله إلى مكان لتخزين الأسلحة، وتشكيل خلايا سرية مهمتها إرسال «المجاهدين» إلى سوريا. هذا الأمر استدعى مطالبة أطراف سياسية ومدنية تونسية، بتحييد المساجد عن الشأن السياسي، التي إن لم ينسق أحدها في خطاب العنف انساق نحو التسويق لحزب سياسي ذي مرجعية دينية، فأصبحت الجوامع منبراً لدعاية الحزبية. لذلك، ضمنت المنظمات الراعية للحوار الوطني نقطة تحييد دور العبادة عن السياسة واسترجاع الخارج منها على سيطرة الدولة، كواحدة من أهم نقاط خريطة طريق الحوار، ملزمة حكومة مهدي جمعة بوضعها على رأس أولوياتها. وقبل أيام، أصدرت وزارة الشؤون الدينية قراراً يقضي بإغلاق المساجد إثر صلاة العشاء مباشرة، وتحييد المساجد عن الحديث في الشأن السياسي وحزمة قرارات أخرى، وهو ما أثار استياء فئة واسعة من أئمة الجوامع الذين دعوا نظراءهم إلى رفض هذا القرار. وبالرغم من أن المطالبة بخطاب معتدل في المساجد تعتبر مطلباً تتبناه فئة واسعة من التونسيين، فإن السؤال المطروح هو حول مقدار الرقابة التي ستتمتع بها الدولة على الخطاب الديني. واستجابة لبنود خريطة الطريق، انكبّت وزارة الشؤون الدينية في الحكومة التونسية على استعادة 145 مسجداً واقعاً تحت سيطرة التيارات المتشددة من جملة خمسة آلاف مسجد. وكوّنت الوزارة، بحسب ما أعلن رئيس ديوان وزارة الشؤون الدينية عبد الستار بدر ل«السفير»، لجنة رباعية تضم إلى ممثلين عن وزارتي الداخلية والعدل ومكلّف بنزاعات الدولة، مشيراً إلى أنها تدرس أسبوعياً وضعية ما بين 15 و19 مسجداً خارج السيطرة، وتكلّف أئمة معتدلين بمباشرة الإمامة في هذه المساجد. وأعلن عن خطة ستنفذ على مدى ثلاثة أشهر هدفها استعادة كامل المساجد وإخضاعها لسيطرة الوزارة. ووفق القرار الوزاري، فإنه تقرر إغلاق المساجد إثر صلاة العشاء، وفتحها نصف ساعة قبل صلاة الفجر وإغلاقها مع انتهاء الصلاة لتفتح من جديد نصف ساعة قبل الصلاة الموالية. وعللت الوزارة هذه الإجراءات بهدف حماية الجوامع من استغلالها لغايات غير التي تفتح لأجلها. ويذكر أن عدداً هاماً من المساجد استعملت في الفترة السابقة لتجنيد الشبان وإرسالهم إلى سوريا وتخزين الأسلحة، وسبق أن تمت الدعوة للجهاد ضد قوات الأمن والجيش التونسيين من صوامع الجوامع (حادثة مسجد حي النور في العاصمة تونس). لكن مسألة «التحييد» لم تلق التجاوب المنتظر، حيث ارتأى عدد واسع من الناشطين أنها ستفتح الباب على مصراعيه لتدخل الحكومة في الخطاب الديني، فهي عند منعها الإمام الخطيب من الحديث في الشأن السياسي تكون قد تدخلت في مضامين خطبته وألزمته بالخوض في مسائل دون أخرى، في حين تقتضي إمامته تقديم النصح والإرشاد للمصلين في مختلف الميادين. وبالنظر إلى تاريخ ليس ببعيد من تدخل السلطات في الخطب وفي تسيير المساجد، فإنه لا يخفى على أحد أن الحقبة السابقة فرضت على الأئمة الحديث في العبادات دون سواها. ولعل عصور «الكبت'' والتضييق على الخطاب الديني هي أحد أهم مسببات لجوء فئة واسعة من الشباب التونسي نحو «حلقات علم» تعقد في المنازل خلسة، كانت النواة الأولى لزرع الفكر السلفي المتشدد فيهم والذي غزا الجوامع في ما بعد. ويرى ملاحظون أن مسألة التحييد ومنع الأئمة من الحديث في الشأن العام، ستخدم الأحزاب المنافسة ل«حركة النهضة»، التي دعمت التوافق على مهدي جمعة للحصول على رئاسة الحكومة، كما جعلت من أئمة المساجد يصطفّون مع دعاة السلفية في تونس، الرافضين لتحييد دور العبادة، ووحّدت مطالبهم، ما ينبئ بمعارضة حادة ستواجه قرارات جمعة. وفي هذا السياق، اعتبر القيادي في «النهضة» الحبيب اللوز، في حديث إلى «السفير»، أن ‘'الحديث هو أن الدستور التونسي أقر تحييد المساجد عن التوظيف الحزبي، ولم يقر تحييدها عن الشأن السياسي، وبالتالي على الأئمة أن يجتنبوا الحديث عن الزعامات والشخصيات لأن القرآن الكريم ينص على ألا يدعى في المساجد لغير الله وأن لا يرفع فيها غير اسمه، أما الحديث عن تحييدها من السياسة فلا يجوز للمسجد أن يخالف الإسلام الذي يدعو الإمام إلى الحديث عن الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والحديث عن القضية الفلسطينية والعراقية هي قضايا من صلب الدين...». وأضاف اللوز أن التعامل مع الجهات المتطرفة لا يأتي بالسيطرة على المساجد الذي قد يقود إلى عودتها كما كانت في ظل النظام السابق، حيث كانت الخطب تكتب مسبقاً ويمنع على الأئمة الحديث في موضوع دون آخر، معلناً مناصرته للأئمة الرافضين لسيطرة الوزارة على الجوامع.