الحريق الذي شب في منزل الفنان سعيد صالح وأتى على كل المحتويات والمقتنيات كشف عن جانب إنساني وتراجيدي في حياة نجم الفكاهة الكبير، وهي المفارقة بين ما يبدو في الصورة الفنية الآتية عبر الشاشة من زهو وتألق وترف وبين الواقع المغاير تماما لهذا الخيال المثير، الذي يداعب الأحلام ويبعث على الإعجاب بحياة الفن والنجومية والشهرة. سعيد صالح هو رفيق مشوار نجم النجوم عادل إمام، وزميل كلية الزراعة في سنوات الدراسة الجامعية، كان أول ظهور لسعيد في مسرحية ‘هالو شلبي' في سبعينيات القرن الماضي مع الفنان القدير عبد المنعم مدبولي، ترك الفنان الكوميدي الشاب حينئذ أثرا واضحا على مستوى الأداء لدى الجمهور بجملته الشهيرة ‘شراب أستك منه فيه' فلم تكن ظاهرة الإفهات في الأعمال المسرحية قد انتشرت بعد، فقد كان الالتزام بالنص المكتوب دليل القدرة والمهارة والموهبة والخروج عليه نوع من الفوضى واستهانة بالمؤلف والمخرج. ورغم الانضباط الشديد في مدرسة مدبولي المسرحية سمح للوجه الجديد الموهوب سعيد صالح بالارتجال والخروج عن النص في مواضع قليلة، كان من بينها هذا الجزء المتعلق بالافيه المذكور، وفي هذه المسرحية أيضا كان الترقب لميلاد موهبة جديدة هو الفنان أحمد زكي، الذي أدى دور جرسون في ‘اللوكاندة'، التي تجمع أقطاب العمل الكبار واشتهر زكي بتقليد النجوم لا سيما محمود المليجي، الذي أتقن تماما تقليده فظهرت قدراته الإبداعية المبكرة. كانت هذه هي البداية في مشوار الفنان سعيد صالح، الذي اكتملت نجوميته في العمل الكوميدي الفارق في حياته الفنية ‘مدرسة المشاغبين'، حيث وقف على خشبة المسرح كند قوي لعادل إمام مؤديا الدور الأبرز لشخصية مرسي الزناتي، ابن طبقة الانفتاح الاقتصادي الجديدة وأحد رموز الثراء المفاجئ عبر الممثل الكوميدي الواعد في حينه عن مساوئ التدليل الزائد في التربية والاعتماد على الثروة، دون النظر إلى التقويم العلمي والأخلاقي، وهي نفسها عيوب الشخصيات الأخرى في المسرحية ‘بهجت الأباصيري' عادل إمام و'منصور ابن حضرة الناظر' يونس شلبي ‘وهادي الجيار' وغيره باستثناء شخصية الطالب المجتهد الذي يهوى الشعر ‘أحمد زكي' فهذه كانت النمط المقابل والمضاد. لتسم دور البطل الثاني للمسرحية سعيد صالح بخفة الظل وسرعة البديهة والشقاوة وفي معظم الأحيان هو المشاغب الأكثر جرأة في علاقته بالمدرسة ‘عفت عبد الكريم' سهير البابلي الناظر حسن مصطفى، فضلا عن أنه الأكثر همجية واستهتارا أيضا، بالإضافة لكونه الأضعف علميا وهي مكونات الشخصية الدرامية التي من فرط اتقانة لها ظننا أنها هو نفسه سعيد أو ربما تحمل بعض صفاته الحقيقية وهذا بالطبع منتهى الصدق في الأداء التمثيلي الاحترافي. تأهيل الفنان بعد نجاحه المبهر في هذا الدور إلى البطولة المطلقة في مسرحية ‘العيال كبرت' مع ثلاثة من أبطال المشاغبين حسن مصطفى وأحمد زكي ويونس شلبي، وبالطبع كان قد تمرس بما فيه الكفاية فبدأ أقل انفعالا وأكثر تمكنا فزاد رصيده الجماهيري وخرج من مأزق المقارنة بينه وبين عادل إمام لينسب نجاح المسرحية إليه وحده دون مشاطرة كنجم أساسي معتمد في سوق البيع والتوزيع. في هذه الأثناء بدأت السينما في الالتفات لموهبته وأهمية وجوده مع عادل إمام كبطل ثان وداعم أساسي لأفلامه بعيدا عن شروط المسرح وجمهوره النوعي باعتبار أن السينما أكثر شعبية وتحتمل أن يكون للفيلم الواحد أكثر من بطل وهي قاعدة معروفة يتم تجاهلها أحيانا لأسباب إنتاجية فقط. وبالفعل حدث التعاون وبدأت عمليات الاستثمار الفني على قدم وساق تظهر في أفلام مهمة مثل ‘المشبوه' و'سلام يا صاحبي' و'رجب فوق صفيح ساخن' وتشكل دويتو ناجح بين نجمين كبيرين، كان أخر ما أسفر عنه فيلم ‘زهايمر' الحلقة الأخيرة من العطاء السينمائي المتجدد على مدار سنوات، وبالتوازي مع السينما كان المشوار المسرحي لسعيد صالح مستمرا على نحو مستقل تماما عن مسيرة الصديق ورفيق الدرب، فكانت بطولاته الأخرى ‘كعبلون' و'أبو نظارة' تشي بثبات إيقاعه ورسوخه كفنان قدير على خشبة المسرح الكوميدي ذي النكهة السياسية، وقد دفع ضريبة ذلك بالحبس لمدة شهر لقيامه بعمل إسقاطات صريحة وتجرؤه على نقد بعض الشخصيات ذات الحيثية في عصر مبارك، وكانت هذه المرة الأولى التي يدخل فيها صالح السجن جراء تهكمه على الكبار وسخريته منهم. لم يعر الكثيرون عن الفنان المسرحي والسينمائي الكوميدي حبه للموسيقى وهوايته للتلحين، فهذا الجانب الخفي في شخصيته يطلع عليه فقط المقربون منه، وقليل من أعماله المسرحية قام هو شخصيا بوضع موسيقاها التصويرية وتلحين أغانيها، ولكن لم يسجل منها سوى البعض ومن بينها ‘كعبلون' تجربته الأوضح والأميز فنيا ودراميا وهي على وجه التحديد واحدة من الأعمال التي يرى سعيد صالح نفسه أنها الأقرب إلى روحه والتي تمثل مستوى من النضج في حياته الإبداعية. من صفات سعيد الغالبة عدا الاهتمام بالمال والثروة والعناية باكتنازهما فهو مسرف إلى حد كبير لا يحسب حسابا للأزمات ولا يدخر شيئا للغد، يعرف بين أصدقائه ومحبيه بالسخاء والجود والبذخ في أوقات كثيرة يشبه شخصياته السينمائية في بعض الأدوار فهو الجريء المغامر ابن البلد صاحب صاحبه وهو أيضا المثقف الغني بقناعته الزاهد في ما عند غيره. في أزماته كلها وأخرها حريق بيته لم يسأل صانع البهجة أحدا من رفاقه وزملائه ومن عملوا معه شيئا حتى أنه امتنع عن مخاطبة نقابته نقابة المهن التمثيلية واتحاد النقابات الفنية، ويعكف الآن على حل مشكلته بنفسه. ينأى الفنان الذي أضحك الملايين بتاريخه وفنه وذاته عن الاستنجاد، ويواجه بشجاعة محنته فهو يفضل أن يظل كبيرا في نظر جمهوره، وهو الكبير بالفعل فما يخص الناس هو فنه فقط، أما دون ذلك فيعتبره شأنا شخصيا لا صلة به، فالضربة التي لا تقصم الظهر تزيد الإنسان قوة.