أثارت عملية تشكيل الحكومة الجديدة في مصر برئاسة المهندس إبراهيم محلب مقداراً كبيراً من اللغط. فهناك كثير من الشخصيات رُشحت لتولّي حقائب وزارية ثم جرى التراجع سريعاً عن تلك الترشيحات. وتأتي في مقدم تلك الحقائب حقيبة وزارة الثقافة، فقد اختير لتوليها الباحث السياسي أسامة الغزالي حرب قبل التراجع عن ذلك والإبقاء على الوزير محمد صابر عرب. حدث هذا نتيجة غضبة المثقفين الذين عارضوا قرار ترشح حرب للوزارة لأنه «ينتمي إلى طبقة الساسة ولا ينتمي إلى جماعة المثقفين»، بما يثير في مجمله التساؤل بشأن ملامح تلك الجدلية المصرية الخالصة ما بين المثقف والسياسي. الملمح الأول يكمن في الالتباس الذي يثيره تعريف المثقف في مصر بصفته معنياً فقط بالشأن الثقافي دون غيره من الشؤون، وهو ما يرتطم بالتعريفات العلمية للمثقف. فهناك تعريفان أساسيان ومتناقضان أوردهما إدوارد سعيد في كتابه «صور المثقف». التعريف الأول طرحه أنطونيو غرامشي في كتابه «دفاتر السجن»، مشيراً إلى أن جميع الناس مثقفون ولكن قلة منهم هم من يمارسون وظيفة المثقف في المجتمع. تلك القلة اتسع نطاقها وفقاً لتعريف غرامشي لتشمل نموذجين، الأول هو المثقف التقليدي كالمعلم ورجل الدين والإداري البيروقراطي. أما النموذج الثاني فهو نموذج المثقف العضوي المرتبط في شكل مباشر بالطبقات والمؤسسات التجارية التي توظف دوره من أجل إحراز سلطة أو مكسب أكبر في المجتمع. فالمقاول الرأسمالي، وفقاً لغرامشي، يشكل إلى جانبه طبقة كاملة من المثقفين تتمثل بالتقني الصناعي والمتخصص في الاقتصاد السياسي ومنظمي الثقافة الجديدة من أجل نظام قانوني جديد، وغيرهم. أما التعريف الثاني، فيرجع إلى الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا، الذي يرى أن المثقفين عصبة صغيرة من ملوك حكماء يتحلّون بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي العالي وقفوا أنفسهم لبناء ضمير الإنسانية، مشيراً في كتابه «خيانة المثقفين» إلى نماذج كسقراط والسيد المسيح وفولتير وسبينوزا، ومعتبراً أن نشاطهم ليس ملاحقة الأهداف العملية، بل امتلاك مزايا غير مادية عبر ممارسة فن ما أو علم ما أو تأمل ميتافيزيقي. واللافت في التعريفين المتناقضين أنهما لم يقرا نموذج المثقف النخبوي المنعزل عن قضايا المجتمع. فالمثقف إما مندمج في مؤسسات المجتمع غير الثقافية وفقاً لغرامشي، أو مناضل تُحرّكه عاطفة ميتافيزيقية ومبادئ نزيهة للعدالة والحقيقة، وفقاً لبيندا. ومن ثم، فإن الخاصية الأساسية للمثقف ليست هي نخبويته وانعزاله عن العالم المحيط بمقدار ما هي إسهامه في تغيير هذا العالم إلى الأفضل انطلاقاً من قناعات وافتراضات أساسية تدفعه إلى فعل ذلك. وهو ما يقودنا إلى الملمح الثاني من ملامح جدلية المثقف والسياسي في مصر وهو تآكل الدور التاريخي والاجتماعي للمثقف. فالبلد شهد منذ أواسط القرن التاسع عشر تبلور أطروحات مفكري الاستنارة الإسلامية، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده. ثم شهد مع بزوغ القرن العشرين ميلاد مفكري الحقبة الليبرالية، كأحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد. وعلى رغم مساحات الاختلاف في التأويل المعاصر لأطروحات هؤلاء المفكرين، إلا أنهم قدموا في النهاية منجزاً جماعياً، وهو التكريس لنموذج تاريخي مارس فيه المثقف حضوره ومدّه الطاغي بصفته مشاركاً في صناعة أشكال السلطة السياسية والاجتماعية كافة. وهو النموذج الذي عرفته أوروبا في شكل أكثر راديكالية وتجذراً خلال مراحل تحولاتها الكبرى. فلولا روسو وفولتير، لما اندلعت الثورة الفرنسية. ولولا ماركس وأنغلز، لما اندلعت الثورة البلشفية. وهنا يلعب المثقف دوره التاريخي، لا بصفته فقط ناقداً ومقوماً للسلطة، بل بصفته صانعاً للنظام برمته. ومن ثم، فإن هذا الإلحاح على فكرة عزل المثقف عن السياسة في مصر يعني ببساطة مزيداً من تآكل دوره التاريخي والاجتماعي الذي أزيح عنه منذ ثورة تموز (يوليو) 1952 لحساب قادة الجيش. ثم تكررت تلك الإزاحة، سواء لحساب نخبة الإعلام وناشطي السياسة بعد ثورة 25 يناير، أو لحساب التنفيذيين ورجال الجهاز البيروقراطي بعد انتفاضة 30 يونيو. وهو ما يعني ببساطة أن التساؤل المتعلق بانتماء وزير الثقافة إلى نخبة السياسة من عدمه، لا ينبغي أن يُطرح ونحن في صدد تناول دور الثقافة والمثقفين في مصر بعد ثورة كبرى، كثورة يناير. فهناك أسئلة أخرى أكثر أهمية يجب أن تطرح، وهي: هل في استطاعة المثقف المصري استعادة جماهيريته والتحامه بالشارع؟ وهل سيمكّنه النظام السياسي الجديد من اتخاذ الموقف الذي يراه متسقاً مع أفكاره وقناعته، حتى لو كان هذا الموقف هو معارضة هذا النظام؟ وهل سيأتي اليوم الذي نرى فيه المثقف المصري صانعاً للسلطة وليس تابعاً لها؟ أظن في النهاية أن الإجابة عن تلك الأسئلة قد تؤسس في شكل علمي لتعريف المثقف ودوره في مصر بأكثر مما يفعل هذا الجدال السفسطائي في شأن تخصصه العملي أو كادره الوظيفي. "الحياة" اللندنية