طنجة.. مصرع شاب في حادث دراجة نارية قرب مركز الحليب    تونس: عريضة تطالب قيس سعيد بالتنحي وتحذر من خطر انهيار الدولة        فتح تحقيق تقني إثر حادث تعرضت له طائرة تابعة لشركة "إير أوسيان "بفاس    حملة أمنية واسعة بطنجة لمواجهة الجريمة وتعزيز الشعور بالأمن    لغيدي يحصل على جائزة فرنسية تكريمية    الCNSS يلجأ للقضاء ضد مروجي التسريبات    الرميد ينتقد غياب لجنة تقصي الحقائق بخصوص دعم الأضاحي ويصف البرلمان ب"العاجز رقابيًا"    منتخب الفوتسال يقسو على الصين بثمانية أهداف نظيفة    فتح تحقيق إثر حادث تعرضت له طائرة تابعة لشركة (إير أوسيان) على مدرج مطار فاس    الدرهم يرتفع بنسبة 3% مقابل الدولار بين فبراير ومارس 2025    آخر خرجات 'مسيلمة التيكتوك واليوتيوب' أو 'العياش الفاشل' مهزلة بكل المقاييس    وزير الداخلية يترأس اجتماعا بالرباط لتتبع تنزيل ورش الجهوية المتقدمة    كوت ديفوار تتجاوز السنغال بركلات الترجيح وتواجه المغرب في النصف    الزمامرة تهزم شباب السوالم بالبطولة    مهرجان "عرس الصحراء" في قلب درعة تافيلالت: سحر الفن في الراشيدية والريصاني    وزارة التجهيز تكشف تفاصيل سقوط طائرة بفاس وتفتح تحقيق    12 مليار درهم للمقاولات الصغرى مهددة بالتبخر كما حدث مع 13 مليار درهم للمواشي    كيوسك القناة | قراءة في أبرز عناوين الصحف الاقتصادية الأسبوعية    الصين ترد على رسوم ترامب الجمركية.. وأمريكا تتمسك بموقفها    الشرطة توقف شابا متورطا في ترويج أجهزة غش مهربة    حركة "بي دي إس" تدعو لمقاطعة "جيتكس إفريقيا" بمراكش بسبب مشاركة شركات إسرائيلية    فوز ثمين ل"الكوديم" على آسفي    حكاية مدينتين "التبادل الثقافي بين طنجة وجبل طارق " عنوان معرض تشكيلي نظم بعاصمة البوغاز    تطورات مثيرة في قضية إسكوبار الصحراء وهذا ما قررته المحكمة    مخيمات تندوف... سجن فوق تراب دولة ترعى الإرهاب    نشرة إنذارية: أمطار رعدية ورياح قوية مع تطاير الغبار بعدد من مناطق المملكة من الجمعة إلى الأحد    مشروع لتصنيف البوليساريو منظمة إرهابية    درك الفنيدق يفك لغز وفاة فتاة عُثر عليها بسد أسمير    تأجيل مهرجان تطوان لسينما المتوسط    مجلس المستشارين.. افتتاح أشغال الدورة الثانية من السنة التشريعية 2024-2025        نشرة إنذارية.. أمطار قوية منتظرة بالمملكة ابتداء من اليوم الجمعة    مجلة «أصدقاء ديونيزوس» تُخصص عددها 11 ل «جماليات السِّينما»    الذئب الرهيب يعود من عالم الانقراض: العلم يوقظ أشباح الماضي    شراكة بين "اتصالات المغرب" و"زوهو"    ألف درهم للمشاركين في برامج الصحة    "الاستقلال" يطالب بتخليق الحياة العامة ومحاربة الممارسات غير الشفافة    محمد صلاح يجدد العقد مع ليفربول    الدول المنتجة للنفط في مأزق.. أسعار الخام تهوي لأدنى مستوى منذ الجائحة    الذهب يرتفع ويسجل مستوى قياسيا جديدا    المغرب يدعو إلى تضافر الجهود الدولية لضمان سلامة الأجواء في مناطق النزاع    السياحة.. المغرب يسجل أرقاما قياسية خلال الربع الأول من سنة 2025    الاحتكار آفة الأشْرار !    نجاة الرجوي: "مشاركتي في حفل تكريم عبد الوهاب الدكالي شرف كبير"    تأهل المغرب وبوركينا فاسو الى الدور نصف النهائي لكأس أمم إفريقيا لأقل من 17 سنة    وفاة مدرب ريال مدريد السابق الهولندي ليو بينهاكر عن عمر 82 عاما    جامعيون ومسؤولون سابقون يرصدون صعوبات الترجمة بأكاديمية المملكة    عراقجي في الجزائر .. هل تُخطط إيران للهيمنة على شمال إفريقيا عبر قصر المرادية ؟    السلطات الصحية بجنوب إسبانيا تتأهب لمواجهة "بوحمرون" القادم من شمال المغرب    سلطات مليلية تحتجز كلب "مسعور" تسلل من بوابة بني انصار    آيت الطالب يقارب "السيادة الصحية"    دراسة: أدوية الاكتئاب تزيد مخاطر الوفاة بالنوبات القلبية    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البشير جمكار: القاص الكادح
نشر في مغارب كم يوم 10 - 02 - 2014

"يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهدا ومُبشّرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسِراجاً منيرا، وبَشِّر المومنين بأن لهم فضلا كبيرا، ولا تُطع الكافرين المنافقين، ودَع أذاهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا"(45 الأحزاب) صدق الله العظيم.
ويكون شارع إبراهيم الروداني مُشمسا يوم الأحد. وتكون الشمسُ تمرحُ في باحة مقهى لابريس في قلب حي المعاريف. يكون رجال الحي من لِعِّيبة رهان الخيل وأنصارِ الرجاء والوداد على السواء، وسماسرةِ الحي ومخبرِيه، ومتقاعدين فيهوعاطلين، وتنابلَ منهم واحدٌ بالذات، وأولادُ درب غلف قد اجتمعوا متجالسين حول طاولات لتيراس، ومنهم من يقفز بينها وبين الكونتوار في الداخل، ومنهم من لا يعرف الجلوس على الإطلاق مثل الجن أحمد صبري، تجمّع فيه ما تفرق في غيره. في عز الظهيرة يشرع القوم في الدخول جميعا تقريبا إلى الجوف، لتناول ما تيسّر من المعلوم، مما ينعش النفس مع شمس الظهيرة. في هذا الوقت بالذات، يُرى شابٌّ قادمٌ من الرصيف الآخر للروداني، يقطع الشارع مُقبلا على خفر نحو"لابريس"، يستظل من الحر بحيائه، ومن العيون بهامَةٍ تنحني قليلا كالخشوع، ولا يمشي في الأرض مَرَحا، ولا يبغي أن يخرِق الأرضَ، قد أوحى إليه ربُّه الحكمةَ باكرا. نكونُ جلوسا، صبري قيدوم درب غلف، صحفي الكرة لا يشق له غبار، وإدريس الكصّ، الذي كان قد انتحل لقب الخوري، ولم يكن لا زفزاف ولا الجوماري قد التحقا بالمجلس العامر، وعبدُ ربه يأتي من زنقة جنيف، فرع من شارع 2 مارس حيث يقيم، وهذا بدءا من صيف 1968 وصُعُدا. يتقدم الشاب الحيِيُّيُلقي السلام بتهذيب وبشاشة لم تفارقانه أبدا كأنهما وشمٌ على جلده. يبقى مبتعدا بخطوة، فهو يهاب العمدة صبري وعينُه على واحدٍ بالذات، صاحبُه أو شيخُه الأول إذذاك، إدريس الكص. يفهم رأسه في الحين، فيغادر مجلسنا ويتجهان معا إلى مقهى من هذه المُحْدَثاتِ، على خُطوات،هناك يلتقيان حول براد دتاي، يحتسيانه وسط غيوم لا تنقطع من غارو كازا. يدور بينهما كلام، الشاب فاحم السمرة إنما يستمع أغلب الوقت، والآخر يتكلم على هواه أو يفكر في شيء آخر، أنا أدرى به وبّا البشير جمكار. لقد لحقته العدوى ممن سمّاه زمرتُه الأولى في درب غلف ببّاهم إدريس، فأصبح البشير يلحق بنا جميعا هذا اللقب ذا الهيبة الظاهرة،فيما لا يخلو من نبرة شفقة على الخَرِفين والمُسنِّين.
كان وصول الطيف الأسمر منتظما تقريبا كل أحد، ولقاؤنا كذلك. فالبشير خجول وحِرزٌ حريز لذلك كان يدفع أوراقا إلى الكص،أقصد بيضاء عليها كلمات. بداأن طموحه، مثل أحمد جارك آنذاك، أن يكتب القصة، أو أيّ محاولة أدبية ويجيد فيها.وتوَسّم خيرا في إدريس ولد درب غلف بدوره، اعتمادا على أنه ينشر أوراقا"مذكرات تحت الشمس"في جريدة العلم،وقصةً بين الفينة والأخرى.هذه إجازته، وبها يُفترضُ أن سيهديه إلى سبيل الكتابة، وربما النشر لاحقا، لكنه عانى منه في هذا السبيل وغيرِه الأمرّين.
غير أن البشير، الذي كان شيخُه يقدمه إلى الناس أنه مجرد" مُعلم"، هو نفسُه من كان يحضر في البداية على متن دراجة نارية، ثم على متن سيارة صغيرة، يخرج منها قبل أن يقطع الشارع قفّة أو سلة محشوة يحملها لصاحبه بها زادٌ من أرغفة وبيض وسمن ودجاجة بلدية، فهو كان رؤوفا بصاحبه، يعرفه رقيقَ الحال، مذ إقامته بدرب غلف، فاتّصل عطفُه عليه صدَقةً جارية، شيمةٌ من شِيَمه، زد عليها من راتبه المتواضع كان يؤدي لإدريس الكص أيجارَ غرفة السطوح بعمارة في زنقة فوريز بالمعاريف، هو من اكتراها له فقَطَن بها سنينَ عددا، بثمن تسعمائة ريال شهريا، وهو مبلغ معتبر آنذاك، وبقياس راتب معلم،حين كان أستاذ السلك الثاني من الثانوي يا سادة يتقاضى 786 درهما ، فقط، لا غير.
إنما أي معلم هذا! مُخلصٌ لمهنته أيّما إخلاص. مُكافحٌ في حياته أيّما كفاح. لا يجد في السعي من أجل كسب الرزق الحلال غضاضة، يُنفق كلما زاد دخلُه، ولا تراه اكتأبَ أو شقِيَ يوما، تستغرب من أين له سَعةُ الخاطر وتلك الطيبةُ كلُّها، والحبُّ الفياضُ للثقافة والتقديرُ المكين للجامعيين خاصةً وأهلِ الأدب عامة، يمحضهُم ثقتَه، ويلتمسُ مشورتَهم، وهو يغبِطهم على ما يعتبره نعمةَ الموهبة والعطاء لديهم، كم حَرَص على الدُّنُوِّ منهم كمن يلتمس بركة الأولياء الصالحين.لي معه في هذا الشأن تجربةٌ وأكثر في بعض أحاديثنا، وحين توليت نشر بعض ما كتب بجريدة المحرر، لتشجيع مواهبَ مُستجدّة أو في الطريق. وأُفضّل الإشارة لتقديره الكبير لقصص الراحل محمد زفزاف، نظر إليه دائما بعين إكبار، وما رأيته إلا مُنصتا أمامه، وزفزافُ نفسُه حيِيٌّ وعفيف، لم يتعالم على أحد يوما، وكم قصَده من فتيان وأدعياء يبتغون مرضاتِه، فكان يقول لهم دونكُم الكتابةُذاتُها بقراءة ومثابرة ووعي وإتقان، لهي المحجةُ البيضاء من زاغ عنها أولى له البحث عن غير سبيل، تماما كما قال ريلكهلجندى طلب نصيحته: إن لم تشعر بأنك ستموت بدون هذه القصيدة وهذا النهج، فابحث لك عن شأن آخر، أفضل لك.
على امتداد سبعينات القرن الماضي تباعدت علاقتي بالمرحوم البشير لمشاغل الدهر، فأنا بيضاويٌّابنُ مرس السلطان بالدرجة الأولى حيث مجلسي وحاشيتي، وصِلتي بحي المعاريف امتدت من أجل الشاعر الأصيل المغبون، الراحل أحمد الجوماري، أولا، ثم زفزاف، ثانيا، وكان الكصّ قد انتقل إلى الرباط بعد أن رأف به المحسن المرحوم عبد الجبار السحيمي وضمّه إلى فريق مطبعة جريدة العلم .وحين انتقلت إلى فرنسا، باريس، من حيث أرقَن لهذا المحفل الموقر كلماتي هذه،وكأني أنكأ بنفسي جراحي، خفّ اتصالي بالوسط الأدبي، يمّمت شطر أوساط أخرى، مكتفيا في الغالب بالأصداء، ومما أتوصل به من إهداء، كانت مجموعة قصصية لجمكار، قرأتها والله أذكر بنَهم واهتمام أحرص أن أعرف أين وصل وكيف حاله مع القص القصير هو ضرب من الصّنعة خطير لا لغوٌ من القول بشِروَيْ نَقير، فنٌّحذِقَه لمعلم الكبير محمد زفزاف وأتقنه على يد أساتذته موبسانوتشيكوفوهمنغوي. وقد لاحظت من خلال هذه المجموعة، ونصوصٍلاحقة، بأن المعلم الكادح البشير جمكار، كادحٌ أيضا في القصة القصيرة،لا يذخر وُسعا ما وسِعه ليضعها على الصورة الأمثل، يقرِنها دائما بهموم الفئات الشعبية والمشاعر المتقلبة بأوجاع الأرض، وأحوال الدنيا بين المأزومين والمتعبين،تراه أميلَ في الإحساس والنظرة والتصوير إلى فطرة البداوة وبساطتها، بلا ثنايا، يذهب إلى القصد مباشرة، ويخطب مُثلا عليا ومقاصدَ نبيلة، وفي هذا تمثلَ نُبلُه، و"مَثلبُه" في آن، والإنسان ابن بيئته قبل كل شيء. أحسَبُأن البشير عاش ذلك البدويَ الأصيل وفيا لأخلاق الأرض، لم تستمله المدينة لحد أن ينسجم مع أوفاقها أو يتنازل لنفاقها،ومن ذلك اختلال التناغم في كتابته مع بعض مقتضاها، والأسلوب ، كما قال بوفون،هو الرجل نفسه، أولا وأخيرا. البشير رجل أحرش، أي معقول، دَمِثٌ ومحبوب ومعقول، لا يخاف في الحق والتعليم والأدب لومة لائم، معقول. البشير هو ابن الشاوية،جميل وخصب وفحل ومعطاء مثل تراب التيرس، بقي يرسل إلى الكص حتى الرباط قفة بها الطيور البلدية والمسمّن المدهون، تعبيرَ صدق ووفاء، وكان قد تباعد بينهما الزمن كما تباعدت بنا الأيام مع أخلاق هذا الزمان، وكان البشير قد تعلم الطيران وحده، ورأيته يحلق عاليا في سماء الحياة والقصة، ففرحت له إلى أن علمت أنه ارتاح أخيرا رحمه الله في السماء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.