عندما فتح ادريس الخوري عينيه على هوامش الدار البيضاء، كان والده «التروبادور» (عازف الوتر) قد عزف عن الحياة ولحقت به أمه في نفس السنة، فتكفل أخوه بتربيته ورسْمِ حياته: علمه القرآن، الذي حفظه وهو في ال13 من عمره، واختار له «الكص» اسما عائليا. لكن الشاب ادريس مزق إطار أخيه وعاد إلى حياة والده التي عثر عليها في الأدب و»الحياة المحرمة»، واختار اسم «ادريس علال» ثم «الخوري» الذي يحيل على عائلة لبنانية اشتهرت بالأدب والموسيقى. فوق كرسي اعتراف «المساء»، يحكي «بَّا ادريس» كيف اجتاز امتحانات الشهادة الابتدائية له ولأحد أصدقائه فرسب هو بينما نجح صديقه، فأصبح الناجح شرطيا، والراسبُ كاتبا مشهورا سيقدِّم محمد بنعيسى، عندما كان وزيرا للثقافة، كتاباته إلى نجيب محفوظ، قائلا: هذه أعمال أهم كاتب قصة في المغرب. وعلى كرسي الاعتراف أيضا، سوف نغوص داخل «الوقائع الغريبة» لعلاقة الخوري بالكتابة والحياة رفقة صديقيه: محمد زفزاف الذي يعتبره روائيا كبيرا لم ينل حقه من الاعتراف، ومحمد شكري الذي يقول إنه كان كذابا ووقحا وأنانيا.. ومن عمق ذاكرته القوية، يحكي «با ادريس» عن طرائف علاقته بالصحافة والرياضة والمسرح والسينما.. وحكاياته مع «أدب القذافي» و«ساعة صدّام حسين». - في مارس 1965، وقبل أن تغادر الدار البيضاء في اتجاه الجزائر بحثا عن عمل، اندلعت انتفاضة 23 مارس من نفس السنة؛ كيف عشت هذه الانتفاضة الأولى في تاريخ المغرب المستقل؟ في 1965 كنت أبلغ من العمر 25 سنة، وهذا يعني أنني كنت أعي ما يجري حولي وما يحدث داخل محيطي الاجتماعي والسياسي. في ذلك اليوم التاريخي المشهود، استيقظت على مظاهرات تلقائية غير منظمة، تلاميذها هائجون مثل ثيران، يجوبون أزقة وشوارع الدار البيضاء احتجاجا على قرار وزير التربية الوطنية آنذاك، يوسف بلعباس، القاضي بحرمان التلاميذ الذين يفوق سنهم 17 سنة من الدراسة في السلك الثاني من التعليم الثانوي.. درب غلف والمعاريف وشارع ابراهيم الروداني، ثم فرانس فيل وشارع عبد المومن، كما درب السلطان والحي المحمدي، وبقية أحياء الدار البيضاء البعيدة.. كانت تغلي كمرجل بمظاهرات صاخبة. - هل شاركت فيها؟ نعم، فقد كنت ضمن مجموعة انطلقت من شارع عبد المومن وتوجهت نحو مرس السلطان، وقد كانت القوات العمومية تحاصر المجموعات هنا وهناك، فذلك الزمن -كما هو معلوم- كان زمن أوفقير الذي لم يتورع عن قتل المئات من المتظاهرين. المهم أنني، بسبب المحاصرة الأمنية التي طوقت المتظاهرين، عدت أدراجي إلى درب غلف ومنه إلى منزل الصديق بشير جمكار الذي كان يقطن خلف «الباطيمات»، قرب شارع غاندي. وبينما كنت واقفا أنتظر أن يفتح لي بشير الباب، إذا بسيارة «المرود» تقف بجانبي وتعتقلني وتقودني إلى المقاطعة الثالثة بدرب غلف، وهناك ظللت قابعا في جو من الازدحام. وفي حوالي الساعة العاشرة ليلا بدؤوا ينتقون من سيطلقون سراحهم، وكنت من بين المفرج عنهم. - في هذه المرحلة، جمعتك صداقة قوية بالكاتب الراحل بشير جمكار، الذي كنت تمازحه بترديد جملة: «آه ميمتي طاح لي الطالون»؛ ما حكاية هذا «الطالون»؟ (يضحك) نعم، هذه لازمة ساخرة كنت ألح على المرحوم بشير في أن يعيدها على مسامعنا ونحن في حانة «الرونيسانس» بشارع الحسن الثاني قبالة بنك المغرب بالدار البيضاء، عند مدام «بونيت» التي كانت شبيهة، في شبابها، بالمغنية الفرنسية ميراي ماتيو. أما حكاية هذه الجملة/اللازمة فقد سمعناها، أول ما سمعناها، من فم راشيل العجوز اليهودية، قصيرة القامة والمتصابية. كانت الأخيرة تتردد يوميا على حانتنا صحبة بعض اليهود وبعض الفرنسيين. وذات مساء، وبينما نحن جلوس نثرثر حول الوقت ورجاله، حول القصة والرواية، والكتابة بصفة عامة، إذ دخلت راشيل إلى «الرونيسانس» لتكرع بعض كؤوس النبيذ، فإذا بها تتعثر عند المدخل وينكسر كعب حذائها الأسود حتى توشك على السقوط، فتصيح وهي تتشبث بدفة الباب: «آه ميمتي طاح لي الطالون».. قالتها بلكنتها اليهودية طبعا. وقد كنا نضحك حتى نكاد نستلقي على أقفيتنا لطريقة البشير في تقليد راشيل التي كانت تملأ فضاء الحانة ضحكا ورطانة بلغة فرنسية ركيكة، وكانت مدام بونيت (صاحبة الحانة) تسخر منها وتدفعها إلى الاعتراف بآخر علاقة جنسية مارستها مع أحدهم.. تعود علاقتي بالمرحوم بشير جمكار إلى أواسط الستينيات حين بدأت النشر في «العلم»، وحدث أن لفت اسمي انتباهَه فتم التعارف بيننا بسرعة، خاصة وأنه كان يسكن في زنقة فرعية على امتداد زنقة الزموري قريبة من زنقة أخرى موازية لها يقطن بها المرحوم عمي قدور. وقد كان بشير مولعا بقراءة مجلة «العربي» الكويتية و»الهلال» المصرية. ودون ادعاء، فقد كنت أنا السبب في ولوجه عالم الكتابة وقال لي في لحظة انتشاء نفسي إن «عندو ما يكول». وعندما انتقل من درب غلف إلى فيلا بسيطة في سيتي بلاطو، قريبا من شارع غاندي مستقلا بنفسه وبكيانه وأولاده، أخذ يتردد علي بين فينة وأخرى حاملا معه «طبسيل ديال الرفيسة بالدجاج البلدي والعدس والحلبة» أنا الساكن وحدي فوق سطح عمارة الدكتور العلمي بزنقة فوريز العائش على تعويض «العلم» الشهري الهزيل. - إلى جانب انتفاضة 1965، لك أيضا قصة مع المحاولة الانقلابية ليوليوز 1971، عندما كنت صحافيا ب»العلم»؟ نعم، بعد التحاقي بجريدة «العلم» سنة 1968 وحصولي على غرفة سفلية بزنقة نابولي في الرباط، كان يتردد علي فيها كل من محمد برادة وعبد الجبار السحيمي، وأحيانا خالد الجامعي وزوجته بديعة براوي، بقيت أعمل مراجعا لغويا، في قلب مطبعة الرسالة، إلى أن حدث انقلاب الصخيرات في غشت 1971، كان اليوم يوم سبت، وكان عبد الجبار السحيمي قد طلب منا، أنا وعبد الإله مالك الذي سيلتحق في ما بعد بسلك الشرطة، أن نذهب إلى مقر الإذاعة لمعرفة ما حدث بالضبط في محاولة الانقلاب. ركبت خلف مالك على متن دراجته النارية «موبيليت»، ونزلنا قرب مقر الإذاعة، وهناك كان جنود شبان في حالة استنفار هستيرية، وعندما رأونا اقترب مني أحدهم وسألني عن هويتي، فأجبته بأنني مجرد عامل في مطبعة، فعلق بحدة: «سير ولا نتيري فدين مك». عندها عدنا أدراجنا إلى الجريدة.. هذا يوم مشؤوم لم ولن أنساه ابدا.. لقد نجوت فيه من الموت بأعجوبة. - ماذا كان موقف الصحافيين ومناضلي حزب الاستقلال من محاولة الانقلاب تلك؟ لم يكن لنا كصحافيين أي موقف من محاولة الانقلاب، فقد كنا مشدوهين إزاء ما حدث. وأنا شخصيا، كنت ضد محاولة الانقلاب، فلو أن ذلك الانقلاب حدث فعلا لانقلب المغرب رأسا على عقب، ولكنا مجبرين على الخضوع لنظام عسكري ديكتاتوري شامل لا نعرف مداه إلى الأبد.