1 ليُقلْ عنا ما يقال: ملاحدة، علمانيّون، بوهيميّون، لا مبالون ب»القضايا الكبرى» للوطن، عدميّون. صافي؟ كلّ هذه النعوت السيئة تُلصق بنا لأننا من سلالة مختلفة عن سُلالتهم المحافظة على «القيم» التقليديّة الجاهزة. فهلْ رأيتَ ذلك الشيخ-الإمام الذي كان يغتصب شابّة يوميّا في أحد أرْكان المسجد؟ وذلك «الإسلامي الذي كان يعاشر «إسلامية» متزوّجة من «إسلاميّ» صديقه؟ يحدث هذا في «مغرب الإسلامييّن»، أما نحنُ، فلا «رفاهية» لنا إلا الحياة اليومية بكلّ بؤْسها وسُرورها ومُتَعها الحسّية المليئة بالمفارقات السّوريالية. أنتَ، أيها الكاتب المفترض، قصّة قصيرة قابلة للضرب والقسْمة والطّرح والتأويل والصّرف مثل النحو. مُدمنة بدورها كجسد متحرّك على الأماكن العامة، السرّية والعلنية، الجيدة والرديئة. فإلى أين تذهب اليوم صباحا وزوالا ومساء؟ عليك بمكانك المفضل الذي «تأوي» إليه كلما ضاق بك وقتك الفائض، وقتُ البيْت والزوجة الثرثارة، وقت العلاقات الزائدة عن المعنى. ذلك لأنّ لهذا المكان-الحانة طقسا سحريّا خاصا لا تضاهيه شقة فاخرة، أو فيلا لا كتابَ فيها ولا وردة. في الحانة، يتكرّر نفسُ المشهد اليوميّ، نفسُ الوجوه، نفس الوجوه الجملية (إنسانيا)، والرديئة والمدّعية والعدوانية والمُحتالة. إنه الإغواء الشيطانيّ السرّي القابع خلف رغبتك الدفينة في الارْتماء بين أحضان «كوخي الحقير»، أو عند السّيدة غيرانْ الفرنسية، أو «الصحافة» بحيّ المعاريف، أو «لامارنْ» بالرّباط، إذ أنّ كلّ الطرق تؤدي إلى المكان المألوف. 2 - إلى أين أنت ذاهب أيها القصة القصيرة؟ - إلى مأواي المفضل. - قل إلى «الكابيتولْ». - لا، إلى «الرونيسانسْ» - لقد ماتت مدام بوليت. - هي وأخواتها الحمقاوات. - لقد تغيّرت المدينة. - ببني هلال وبني سُليْم? في الحانة التي تتردّد عليها القصة القصيرة، صباحا ومساء، ثمة وجوه جديدة ثؤثت فضاءها الملوث بالدخان والموسيقى الرديئة، والداعرات الجائعات اللواتي لا يشبعن من البيرة ومن طلب السجائر. القصة هنا والآن، غدا وبعد غد، شهرا بعد شهر، سنة بعد سنة. ورغم أننا نوزّع الأمكنة، هنا وهناك، إلا أننا ندور مثل الخذْروف لننتهي، في نهاية المطاف، إلى نفس المكان. ذلك أنّ من افتقد صديقه الحميم سيذهب إلى حانته المفضلة ليقرقب معه الناب، وينتقد الأفلام السينمائية والكتابات الصحفية لزملائه، الأحزاب والنقابات، الجمعيات الثقافية المتناسلة. - يالله، غدّا نتلقاوْ. - تمّاكْ. - القصة القصيرة في الحانة: لنسألْ محمد زفزاف. هنا فضاء «ماجستيك» و»الكون» عند الزيادي، أحمد بوزفور في «ميرْ سلطان»، أحمد المديني أيضا، عبدو ربّه الضعيف في «لابريس»، يوسف فاضل. 3 يمتطي الكاتب المفترض درّاجته الهوائية انطلاقا من «الرونيسانس» أو «لاكوميدي» نحو المعاريف. هنا في غرفته الصغيرة، تستحضر القصة القصيرة شخوصَ الحانة، رجالا ونساء، عُشاقا محبطين ومنفصمين، موظفين مسْحوقين. وفي «الرونيسانسْ، قالت راشيل اليهودية المتصابية، ذات المساحيق الرّديئة، وهي تهمّ بالدخول إلى الحانة: - أمّيمتي تاحْ لي التّالونْ? عندها ضحك المرحوم البشير جمكار، وكان رفيقا لسلالتنا، وطلب لنفسه قصّة قصيرة? كانت راشيلْ قد توجهت مباشرة إلى المسيو جورج، وهو زوج مدام بوليت، وقبّلته في فمه حتى أننا ضحكنا وطلبنا، أنا وأحمد الجوماري، كاسْ قصّة قصيرة. ليس للكاتب المفترض، مثلي ومثلك، من مكان مفضّل غير الحانة. فيها يأكل ويشرب، وينام أحيانا، مثل محمد أمسكان. وعندما تذهب السّكرة، تحضر الفكرة. إنّ الملف الذي أنجزه أمسكان عن حانات الدارالبيضاء، في تلك المجلة الفرنسية البيضاوية (V.H)، سنوات الخمسينيات والستينيات، لهو إنجاز صحفيّ وثقافي جد هامّ. في تلك الحقبة التاريخية الذهبية، كانت «كازا» عبارة عن مقاطعة من مقاطعات باريس» مقاهٍ، مطاعم، حانات، مكتبات، عمارات جميلة على النمط الكولونيالي. وقد بدأت ملامحها تتّسخ بفعل الإهمال والبَدْونة. أرأيتَ ذلك الكائن الذي يتحدث لوحده؟ - إنه «بيرصوناجْ» صالح لقصة قصيرة? - عندما يحين أجله. وبغضّ النظر عن البعد الّلأخلاقيّ، الذي يريد البعض أنْ يلبسه فوق أكتافنا، إلا أنّ وجود الحانة، في المتن القصصي المغربيّ، عند كل من زفزاف وشكري وغيرهما، له دلالته الرمزيّة: كوْن أن هؤلاء الكتّاب من أبناء المدينة، كوْن الحانة فضاء ذاتيا بامتياز، كوْن المدينة توفّر متعها الحسية لفئات عريضة من المجتمع، ومنها الكتّاب والمثقفون، وكوْن الحانة مجرّد محطة استراحة لا غير. فهل يخدم هذا المقال «القضايا الكبرى» للوطن؟ الوطن نفسه رواية مطوّلة بحاجة إلى كاتب ملحميّ.