في التقديم التلفزيوني أثمرت هزلاً وقبحاً وفوضى عارمة. بدأت بداية موفقة، إذ هلل لها الجميع، وأزاحت عن ملايين المشاهدين غبار عقود من الجمود، وتخلصت من وجوه بلاستيكية تدخل الأستوديو لتؤدي دوراً مأخوذاً من أفلام تاريخية، تتحدث بحذلقة، وتسأل بتحجر لا يخرج عن أوراق الإعداد المجهزة سلفاً، وتستهل الحلقة ب «سيداتي آنساتي سادتي» وتنهيها ب «نتمنى أن تكونوا قد استمتعتم بحلقة الليلة وعلى أمل اللقاء غداً، تصبحون على خير». ولكن ما هي إلا سنوات قليلة من فتح الباب أمام التلقائية والعفوية، حتى تحولتا إلى فوضوية وعشوائية. ولم تتوقف دعابة المذيع للمخرج أو المعد عبر سماعة الأذن عند حدود إشارة سريعة خفيفة، بل تحولت حوارات طويلة على الهواء مباشرة. ولم يكتف أتباع مدرسة العفوية بأن يعيشوا لحظات من الاندماج الكامل في مشكلات المواطن وويلات الوطن، بل منهم من حوّل البرنامج إلى مونولوغ للعصبية وعرض مطول من الخبط على الطاولة والتلويح بالأيدي والتخلص من الجاكيت ثم رابطة العنق للبرهنة على الضيق العارم، وذلك إمعاناً في الحبكة الفنية لمعايشة الكارثة الوطنية أو إخلاصاً في أداء دور «أنا مذيع مشهور ولكنني مواطن مقهور مثلكم». وبما أن أدوار الواقعية تحتم على مؤديها معايشة البطل الحقيقي، فقد صَعّد بعض «ملوك» البرامج من نبرة الشكوى لتصل إلى درجة شتم المسؤولين، مستخدمين ألفاظاً سوقية ومتلفظين بشتائم كان القانون في سالف العصر يحاسب عليها. ووصل الأمر إلى درجة أن يستهل أحدهم الحلقة بكثير من القرف تضامناً مع الشعور العام، فيفاجئ المشاهدين بأنه لن يتمكن الليلة من أن يحييهم تحية المساء لفرط غضبه من أحداث اليوم المؤسفة، أو يباغتهم بأنه بلغ من الغضب ما أوشك على منعه من الظهور في الحلقة اليوم لولا انهم (المشاهدون) عزيزون على قلبه. ولأن الجمهور أظهر إعجاباً في بدايات عصر الواقعية التلفزيونية، فقد تحللت غالبية المذيعين من مدارس التقديم القديمة واعتنقت الواقعية الجديدة بعدما أضفى كل واحد بصمته الخاصة بحثاً عن التميز وسعياً وراء الانفراد. ولم يعد الانفراد انفراداً خبرياً أو خبطة صحافية، بل تحول انفراداً في طريقة الصياح أو خبطة شديدة على طاولة التقديم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل لم تعد الغالبية تجد حرجاً في إعادة تدوير الآراء والتحليلات باعتبارها معلومات، وبدأت تستخدم «الأخبار الحصرية» المنقولة عن الجرائد باعتبارها «انفرادات» للبرنامج، وهو ما أدخل «مدرسة الواقعية» في مغبّة سرقة الخبطات من دون إشارة الى مصادرها الأصلية. وكالعادة، لا يخلو الأمر من طرافة تدعو إلى الضحك، لكنه ضحك كالبكاء، وذلك حين يكتشف المشاهد أن الانفراد التلفزيوني لم يكن فقط مسروقاً، بل إن الخبطة الصحافية لا أساس لها من الصحة أصلاً. ويضحك المشاهد، ويتابع البرامج ممنياً نفسه بالخروج من مستنقع الواقعية ولو بعد حين!