هل ثمة بلاغة خاصة بالشيوخ؟ من المفترض أن البلاغة واحدة غير قابلة للتقسيم، إن نحن انطلقنا في ذلك من منطلق الأبعاد الإنسانية التي تتوارى خلفها أو تندغم فيها. لكن على الرغم من هذا الافتراض لا مفر من الحديث في نفس الوقت عن أنماط وأنواع بلاغية متباينة. فقد سبق لابن طيفور أن عالج ما أسماه ب'بلاغات النساء'، واحتفى بارث في مقاله الشهير ب'بلاغة الصورة'، مثلما احتفيتُ ب'بلاغة قصص الأطفال'. ونحت عماد عبد اللطيف اصطلاح ‘بلاغة الجمهور' مسايرة للثورات المعاصرة المطالبة بالتغيير. والدليل النظري والتطبيقي على وجود بلاغة للشيوخ ما ورد في اعترافات عديد من عمالقة الأدب وحتى إبداعهم نفسه: كويلو، وماركث، ونجيب محفوظ. اعترافات اتسمت بنضج الوعي، وعمق الرؤيا، ورصانة العبارة. *** عايشتُ كتابات جون ماكسويل كوتزَى J.M. Coetzee معايشة أفترض أنها تكفيني لكي أستخلص الفكرة الآتية: إن هذا الرجل يُحسن اعتصار مختلف المراحل العمرية التي مر بها؛ من صبا، وشباب، وشيخوخة. والاعتصار هنا له صلة وطيدة بموضوع ‘الكتابة' من حيث مفهومها، وطبيعتها، وصعوباتها. كما له صلة بالجنس الأدبي المختار من لدن المؤلف؛ سواء أكان رواية أم سيرة أم مجرد مقالة. في كتابه ‘أيام الصبا' لم يتحدث كوتزَى بطريقة مباشرة ومسهبة عن علاقة الصبي جون ماكسويل بالكتابة، لكنه أفلح إلى حد بعيد في تصوير الفرشة البيئية والعائلية التي ستجعل منه كاتباً في المستقبل. وفي سيرته ‘شباب' (انظر دراستنا حولها بعنوان: ‘عندما تتحدى الصفحة البيضاء الكاتب' المنشورة في مجلة ‘الكلمة' الإلكترونية، العدد 5، مايو 2007) اهتم بهذا الإشكال اهتماماً مباشراً، حيث بسط أمام عيوننا عديداً من مظاهر صراع الشاب كوتزَى مع معضلة الكتابة. لكن الذي يهمنا في هذا المقام علاقة الرجل بالمعضلة ذاتها وهو شيخ، انطلاقاً من روايته ‘يوميات عام سيئ' (2007). وقد سبق لكوتزَى أن تطرق إلى هذا الموضوع في روايته ‘فو' (1986) حينما احتفى بصورة الكاتب دانييل دي فو وهو في أرذل العمر، ثم عمَّقها في كتابه الأخير ‘زمن الصيف'(2009) الذي يعد بمنزلة الجزء الثالث لسيرته المسرودة، بعد ‘أيام الصبا'(1998) و'شباب'(2002). في ‘يوميات عام سيئ' صور الراوي حياة كاتب عجوز من جنوب أفريقيا رمز له ب'السيد c'، كان قد هاجر إلى أستراليا حيث استقر. وعن طريق المصادفة تعرف إلى امرأة شابة اسمها أنيا Anya في غرفة التصبين في العمارة التي يقطنان فيها. واتفق الكاتب معها على أن ترقن له مجموعة من المقالات طلبها إليه ناشر ألماني. جراء ذلك نشأت بين الكاتب العجوز والشابة نصف الفيلبينية علاقة روحية وفكرية، لم تكن غرامية، لكنها اتسمت بألوان من الغموض والسحر اللذين أضفيا على هذه الرواية سمه طريفة كادت أن تستحيل إلى إحدى أساطير الإبداع الروائي المعاصر: أسطورة الكاتب الشيخ وراقنته الشابة. فُسِّمت كل صفحة من صفحات الرواية إلى ثلاث خانات مفصول فيما بينها بخطوط أفقية؛ الخانة العليا مخصصة للمقالات المباشرة التي كتبها العجوز ورقنتها له أنيا، والوسطى مخصصة لتعليقات العجوز ذاته، والثالثة مخصصة لأنيا التي ينوب عنها في بعض الأحيان عشيرها ألن Alan الذي يبغض السيد c. وواضح أن هذا التقسيم يعد طفرة من طفرات ما بعدَ الحداثة في مجال الكتابة الروائية، في نفس الوقت الذي يستلهم فيه الكاتبُ خطةَ تعدد الأصوات حسبما بسطها الناقد ميخائيل باختين. مجموع مقالات الخانة العليا التي كتبها العجوز ثلاثة وعشرون. وهي تتنوع ما بين موضوعات الثقافة، والرياضيات، والسياسة، وفلسفة الحياة، والموسيقى، والتدريس الجامعي، مع قدر قليل من الأدب والنقد. ولقد لفت نظرنا في تلك المقالات النقدية إثنان؛ أحدهما بعنوان ‘عن الحياة الأدبية'، ندرجه ضمن بحثنا هذا، وثانيهما ‘عن السلطة في السرد' الذي عالجناه في غير هذا المقام. ترجمتُ المقال الأول عن الرواية ذاتها في طبعتها باللغة الإس′انية وأنا أعي جيداً صعوبة النقل عن غير اللغة الأصل ومخاطره. ومن المؤكد أن القارئ لن يغفر لي هذا التجاوز، بيد أن عذري الشخصي يكمن في الاعتراف بأن قراءتي لعديد من الروايات الغربية كان دوماً باللغة الإس′انية التي تمرستُ بها وأجدها، افتراضاً، أقرب إلى الأصل الإنكليزي من دون أن تكون إياه. *** عندما نتحدث عن بلاغة الشيوخ لا نتحدث جزافاً، وإنما نستحضر مجموعة من الدروس العملية التي مررها كوتزَى بمهارة فائقة، مستلهماً في ذلك فلسفته الإنسانية، وممارسته الطويلة للتعليم والنقد، فضلاً عن كتاباته الروائية. من ذلك ما أورده في ‘يوميات عام سيئ' ذاتها. قال: ‘يبدو لي في المدة الأخيرة أن التخطيط المجمل للحكايات قد أصبح بديلاً عن كتابة الحكايات. (..) إن واحدة من نتائج الشيخوخة أن لا تكون للمرء الحاجة إلى الشيء في ذاته، إنما تكفيه فكرة ذلك الشيء'. ولنا أن نذكر في هذا المقام بعض أعمال نجيب محفوظ في مرحلة عمره المتقدمة من قبيل ‘أصداء السيرة الذاتية'، و'أحلام فترة النقاهة'، و'القرار الأخير'، و'صدى النسيان' الموسومة بسمات الاختزال، والضربات السريعة، وتجاوز التفاصيل، وأحياناً بالانطباعية. غير أن مقال كوتزَى يجعلنا ننظر إلى تلك السمات من زاوية مختلفةٍ تُحوِّلهُا إلى معطيات إيجابية. ذلك أن الكاتب العجوز إذ يرصد لدى الكُتاب الذين هم في مثل سنه الاختزالَ والانطباعية وتجاوزَ التفاصيل؛ يلفيهم في نفس الآن يعوّضون كل ذلك بفلسفة عميقة، أو رؤى إنسانية تساير الحياة في جوهرها اللامدرَك. صحيح أن المقال الذي يضرب المثل بتولستوي في أخريات أيامه يبدو كأنه ينحَى عليه باللائمة بسبب نزعته التعليمية؛ لكنه، في نفس الآن، يتساءل إن لم تكن بلاغة الكاتب الروسي التعليمية سبيلاً من سبل التحرر من القيود والمظاهر في مرحلة شيخوخته. أما الدرس الثاني فيتجلى في الدعوة إلى المثابرة واعتماد روح العناد من أجل الكتابة. وهي دعوة تشمل في واقع الأمر الكتاب الشبان والشيوخ على حد سواء. وفي هذا المجال اشتهر ماركث باعترافاته وعمق تصويره لمعاناته الشخصية من أجل أن يبدع؛ مثابراً ومعانداً ومكرراً. لذلك لم يكن بدعة أن يلتفت كوتزَى إلى بعض تصريحات ماركث ويقتبس منها الفقرة التي استشهد بها في مقاله ‘عن الحياة الأدبية'. والدرس الثالث له صلة بالواقعية. ففي المقال الذي ترجمناه رفض كوتزَى صراحة الواقعية المباشرة، والوصفَ السردي المكثف، وتحفظ من إلهام العالم المرئي. ثم إن المقال ذاته، مع كتابات أخرى لنفس المؤلف، يكشفان أن الرجل يرفض أساساً تلك الواقعية التي تقول بما يشبه نظرية الانعكاس أو التي تتطلع نحو الأسلوب الفوتوغرافي. وحتى عندما كتب كوتزَى نفسه روايته الرائعة ‘خزي' بأسلوب نُعت من لدن عديد من النقاد بأنه واقعي؛ كان في حقيقة الأمر يستلهم تلويناً آخر من الواقعية يحلو لنا تسميته ب'الواقعية التأملية'. (انظر دراستنا عن تلك الرواية في جريدة القدس العربي عدد5231 =24/3/2006). كذلك روايتاه ‘حياة وزمن ماكسويل ك.' و'في انتظار البرابرة' يمكن أن يدرجا نوعياً في سياق هذا التلوين الواقعي التأملي. ثم إن ما كتبه في أكثر من مناسبة عن تولستوي يثبت رفضه للواقعية السطحية المباشرة. ولعل خير مثال على ذلك رواية ‘الحرب والسلام'. قال كوتزَى: ‘النقاد الشكلانيون الروس في عقد العشرينات ركزوا جهودهم على تقديم تولستوي على سائر الكتاب الآخرين بوصفه بلاغياً. أصبح تولستوي هدفهم النموذجي بسبب أن الطريقة التولستوية في الحكي كانت تبدو طبيعية جداً، يعني كانت تخفي بصورة جيدة مهارتها البلاغية'. أجل. إن كوتزَى مع الصنعة البلاغية التي لا تعلن عن نفسها، وضد الواقعية التقريرية التي تفضح تقنيات السرد. وقد سبق لنا أن عالجنا بإسهاب هذا الوجه البلاغي في كتابنا ‘ظمأ الروح. أو بلاغة السمات في رواية نقطة النور لبهاء طاهر'. وثمة درس رابع خَفيٌّ يمرره كوتزَى كتابةً، لن يستطيع استشرافه إلا من عايش إبداعه طويلاً. ذلك أن هذا الكاتب أو راويه على الأصح، يحلو له، إن هو سرَد، أن يصور شخصيته الكاتبة في وضع نكرانٍ ذاتي لا يُحسد عليه. يتفنن في جعل الآخرين ينظرون إليه نظرة احتقار. ثم إنه قلما يحاول الدفاع عن ذاته بالتبجح أمامهم بتملكه لسلاح الكتابة التي يتقنها من دون أن يعلق عليها طموحاً عظيماً حينما يحاورونه. كأنه يجد لذة مازوشية في مسايرة الآخرين في بغضهم للكتابة وعدم المبالاة بها وحتى تحاشي ذكرها. علماً بأنه يبوؤها في يقينه رتبة مقدسة، إن لم يجعلها في رتبة الحياة ذاتها. وهو في ذلك يذكرني كثيراً بنهج مفتش الشرطة الملقب بكولومبو الذي شخصه الممثل ‘يتر فالك Peter Falk في المسلسل التلفزي الشهير. كلاهما يهمل المظهر، ويتبنى أسلوباً غير مألوف ومتقشف في طلب الحقيقة والاهتداء إليها: يكتشف كولومبو المجرمَ في نهاية كل حلقة، ويفلح كوتزَى في إبراز عظمة المبدع في تصويره للنفس البشرية وتعرية أغوارها. لقد سار كاتبنا على النهج ذاته في كتابيه ‘زمن الصيف' و'يوميات عام سيئ'. وفي سياق إنجاز هذه الرواية الأخيرة أثبت الشيخ كوتزَى قدرته على استلهام حتى بلاغة ما بعد الحداثة، من دون أن يقطع الصلة في نفس الآن بالمعين الإنساني المتأجج الذي ميز كل إنتاجه. إن الشيخ قد لا يحسن الكلام الشفاهي، كما قد تعوزه الفصاحة أو القدرة على المراوغة والإفحام. لكن حذار منه حين يكتب!. *** عن الحياة الأدبية ‘خلال السنوات التي اشتغلتُ فيه أستاذاً للأدب، موجِّهاً الشبان في أسفارهم عبر الكتب التي كانت تعنيني دائماً أكثر مما تعنيهم؛ كنت أحمّس نفسي قائلاً لها: إنني لم أكن في العمق أستاذاً بل روائياً. وبالفعل فقد ربحت سمعتي المتواضعة بوصفي روائياً لا أستاذاً. لكن النقاد الآن يعزفون لازمةً جديدةً. في العمق يقولون عني إني بعد كل شيء لست روائياً وإنما متحذلق له لفٌّ ودوران مع السرد. ولقد بلغتُ مرحلة في الحياة بدأت أتساءل فيها إن لم يكونوا على صواب. أجل. فخلال كل الوقت الذي قضيته ظاناً أني مُقَنَّعٌ كنت أمضي في الواقع عارياً. إن الدور الذي أقوم به الآن في الحياة العامة هو دور الشخصية المرموقة (مرموقة لسبب لا أحد يستطيع تذكره بدقة)، دورُ الشخصية الجديرة بالذّكر التي يخرجونها من الموضع الذي تكون فيه مُخزَّنةً وينفضون عنها الغبار لكي يقول بعض الكلمات بمناسبة حدث ثقافي (تدشين قاعة جديدة في رواق الفن، تسليم جوائز في مهرجان..) ثم يعودون بعد ذلك إلى إدخالها في الدولاب. إنه مصيرٌ ذو خصوصيةٍ كوميدية وإقليمية لرجل كان قبل نصف قرن مضى قد انسحب من حياة الأقاليم ودخل بحزمٍ العالَمَ الكبيرَ كي يمارس الحياة البوهيمية La vie boh'me. الحقيقة أني لم أكن بوهيمياً قط، آنذاك ولا الآن. ففي العمق كنت دوماً قنوعاً، وفوق ذلك مؤمناً بالنظام والإجراء المنهجي. وفي يوم من هذه الأيام سيُعلِّق أحدُ موظفي الدولة ميداليةً في صدري الغارقِ، وبذلك سيُختَم إجراءُ استيعابي الجديد من قِبل المجتمع Homais, cest moi يكتب ‘ابرييل ‘ارثيا ماركث: ‘أنا لا أفهم [الإلهام] بوصفه حالةَ نعمةٍ ولا نفخةً إلهيةً، بل بوصفه مصالحة مع الموضوع بقوة العناد والسيطرة... إن الكاتب يستحث الموضوع والموضوع يستحثه... حينذاك تسقط كل العراقل وتتنحَّى كل الأزمات وتخطر للمرء أشياء لم يكن قد حلم بها، آنذاك لا يوجد في الحياة أفضل من الكتابة'. لقد جربتُ مرة أو مرتين في حياتي سموَّ الروح الذي أشار إليه ‘ارثيا ماركث. وربما كان ذلك السمو في الواقع جزاءَ العناد، وإن بدا لي أن قولي ‘نار مستمرة' يصف بصورة أفضل الجودةَ المطلوبة. ولكن بغض النظر عن كيفية تسميتنا لتلك ‘النار' فأنا لم أعد أملكها. أقرأُ أعمال مؤلفين آخرين، وأقرأ الفقرات المفعمة بالوصف الكثيف الذي صاغوه بعناية وجهد من أجل إثارة مشاهد خيالية أمام العين الداخلية فأشعر بأن روحي محبطة. أنا لم أُبَرَّز أبداً بقدراتي على إثارة الواقع، وأشعر الآن برغبة أقل في التصدي لتلك المهمة. والحقيقة أن العالم المرئي لم يسعفني بكثير من المتعة ولا أستشعر بيقين كبير- الحافزَ على إعادة خلقه بالكلمات. إن الابتعاد المتزايد عن العالم، هو بالفعل تجربة عديد من المؤلفين عندما يشيخون ويصبحون أكثر رزانة أو أكثر برودة. إن نسيج نثرهم يخف، ومعالجتهم للشخصيات والحدث تغدو أكثر اختزالاً. وعادة ما تُرجَع بوادرُ هذا الداء إلى ضعف قدرة الإبداع. ومن دون شك فإن ذلك له علاقة بضعف القوى الجسدية، وبصورة خاصة القدرة على الرغبة. ومع ذلك فإن التطور ذاته يمكن أن يُفسَّر في عمقه بطريقة مختلفة كل الاختلاف: [أي] بوصفه تحرراً، وتوافراً على ذهن أكثر صفاء من أجل إنجاز مهام أكثر أهمية. إن الحالة الكلاسية [هي حالة] تولستوي. فلا أحد يملك حساسية أكبر من حساسية الشاب ليون تولستوي تجاه العالم الواقعي، تولستوي ‘الحرب والسلام'. فبعد تلك الرواية، واتفاقاً مع النقد، سقط تولستوي في الهاوية السحيقة للنزعة التعليمية التي عَرفتْ درجتها القصوى في جفاف الحكايات القصيرة خلال مرحلته الأخيرة. ومع ذلك، فإن هذا التطور يجب أن يكون قد بدا للشيخ تولستوي مختلفاً جداً. يجب أن يكون قد أحس، بعيداً عن الانحدار، بأنه يتحرر من القيود التي كانت قد جعلته عبداً للمظاهر، تحرراً أتاح له أن يواجه بصورة مباشرة القضية الوحيدة التي كانت تهز روحه: كيفية العيش'1.