على رغم «الزعل» الشعبي من موقف أصابع أردوغان، وعلى رغم الارتباط النفسي برحلات الصيف السياحية لأزمير وطلعات الشتاء التسوقية في إسطنبول، وعلى رغم الولع المكتوم بمهند والعشق الممنوع للميس، وعلى رغم المقاطعة المصرية الأهلية للواردات التركية من منطلق «لم يكن العشم تخلوا بمصر المدنية وتساندوا مصر الدينية»، إلا أن لسان حال المجتمع المصري يترجم ترجمة فعلية حالية لفظاً سياسياً تركي المنشأ، عثماني القسمات، ولكن بنسخة مصرية. فبعد شهور من صولات المنظّرين في حلقات «الدولة المصرية العميقة» التي ظهرت ملامحها وبانت قسماتها بعد أيام من كنس الشوارع وطلاء الأرصفة وعودة الثوار إلى بيوتهم في شباط (فبراير) 2011 معتقدين أنهم أنهوا ثورة ربيعية بيضاء في 18 يوماً بالتمام والكمال، وتصارع الخبراء وحكماء السياسة وجهابذة التاريخ حول براءة ابتكار لفظ «العميقة» وحق الملكية الفكرية لإلصاقه بالدولة، وتجاذب القبضة على صك الاستخدام التلفزيوني للقب المكتشف، تبددت الدولة وتحولت دفة عمقها صوب المجتمع فظهر «المجتمع العميق»! «نقف الآن على قدم المساواة! تركيا ابتدعت الدولة العميقة غير المرئية والمحسوسة في كل نفس يتنفسه الشعب حيث هواء الجيش والشرطة والقضاء وغول الإدارة العتي متمثلاً في كل شهيق وزفير. ونقلناه نحن عنهم وكأننا لا نعيش في دولة عميقة منذ آلاف السنوات. واليوم نقف على قدم المساواة، وها نحن نخرج بالمجتمع العميق بينما نخطو خطواتنا نحو الدستور. ماحدش أحسن من حد»! قالها أحدهم وهو يستمع إلى أحد برامج الإذاعة الحكومية «الموجهة» ب «نعم» ضمناً و «لا» صراحةً لدستور ليس الأفضل ولكنه حتماً الأسلم للخروج بالبلاد من مغبة الإخوان والخروج بالعباد من مصيدة الجماعات. رد صديقه الجالس إلى جواره: «ناس عاشت في المكان نفسه جنباً إلى جنب مع المجرى المائي نفسه يقومون بالأعمال نفسها هي هي بأقل القليل من التغييرات بحكم تطور العلم والتكنولوجيا، إنه العمق كما ينبغي أن يكون. فلا ثورة تغير، ولا مرحلة انتقالية تؤثر، ولا أحلام ديموقراطية تدغدغ، ولا حتى تخويف من ديكتاتورية يضعضع». بل يمكن القول إن الضعضعة الحقة هي من نصيب تلك الفئات القليلة «الضالة» المتبقية في المجتمع ممن تظن أن لا الدولة عميقة ولا المجتمع عميق، وإن إمكانية الإصلاح واردة واحتمال الديموقراطية قائم وفرصة التغيير ممكنة. ولأن «الإمكان» نفسه بات مستقطباً ومنشقاً على نفسه بين متشدقين بالشرعية وممسكين بتلابيب الشريعة رافعين راية «ليس في الإمكان أحسن مما كان» قاصدين بذلك وقت جلس الرئيس المعزول محمد مرسي على كرسي الرئاسة من جهة ومؤمنين بالخلاص وممسكين بتلابيب المؤسسة العسكرية رافعين راية «ليس في الإمكان أسوأ مما كان» وقت حكم مرسي وبعضهم لم يعد يجد حرجاً في رفع راية «ليس في الإمكان أفضل مما كان» أيام مبارك، فقد تحولت الخطوة الأولى في خريطة الطريق حيث النسخة المعدلة «ليبرالياً» وإلى حد ما «سلفياً» (من خلال حزب النور) من دستور الإخوان إلى ترجمة فعلية للمجتمع العميق. المجتمع المصري الذي كشف – وما زال- عن عمق ينافس الدولة في عمقها، وغموض ينافس الجيش في دوره، وقدرة على التمسك بالشيء وضده وكأنه جهاز شرطي عائد بعد ثورتين وفترتين انتقاليتين بعقيدة تجمع بين طرفي نقيض القبضة الحديدية والليونة الرخوية وذلك بحسب الظروف يكشف هذه الأيام عن أبعاده العميقة التي تذهله قبل أن تذهل الآخرين. الآخرون من شعب مصر الغائبون عن المشهد الآني والقاطنون جنوب مصر، والمعروفون شعبياً ب «الصعايدة»، عنصر طاغ ساطع في مفهوم المجتمع العميق البازغ نجمه. عصبيات قبلية وتحزبات عائلية قديمة قدم الصعيد منحت الحزب الوطني الديموقراطي المنحل العشرات من قبلات الحياة. أعداد غفيرة من الأناس المقهورة تسيطر عليها مادياً ونفسياً كبرى الأسر والعائلات المتزوجة «كاثوليكياً» بالسلطة الحاكمة. وهي الأعداد ذاتها التي ساهمت في الإغداق على الإخوان بقبلة قوية بعد ثورة يناير، وسر قوتها في روحانيتها حيث وعد الخلاص السياسي المسبوغ وقت الانتخابات ذيل هذه المرة بوعد بدخول الجنة. وبعد خروج الإخوان أنفسهم من جنة الحكم، تبقى العصبيات والقبليات والموازنات والتواءمات دون تغيير يذكر. فلا الصعيد تطور ونما وخرج من عنق الزجاجة أثناء 30 عاماً من حكم مبارك، ولا انصلح حاله أو ارتقى سكانه إبان عام من حكم الجماعة ناهيك عن زوال صك الجنة بزوال الحكم. ومع تبلور المحطة الأولى في خريطة الطريق، يتوقع أن تخضع عصبيات الصعيد للمنظومة نفسها حيث كبرى العائلات وحكماء الأسر يحشدون ل «نعم» تمهيداً للخطوة الثانية والثالثة حيث الانتخابات البرلمانية والرئاسية (على أن يترك الترتيب بين يدي الرئيس الموقت). وإذا كان الرئيس موقتاً فإن الدولة العميقة لا تعرف للموقت تعريفاً، والمجتمع العميق لا يلتفت إلا إلى الثوابت. ومن الثوابت عمق المجتمع المصري وعمق ميول المصريين. تغيرت اتجاهات لبعض الوقت، وتبدلت أهواء لأشهر، وسطعت أحلام لبضعة أسابيع، وبزغت أطماع لفترة مقتضبة، وحلقت أهواء لدقائق عدة، وما أن تشابكت خيوط مشهد صراع مصر والمصريين في مواجهة الجماعة وبعض السلفيين حتى نزلت الغالبية من أبراجها العاجية متخلية عن أحلامها ومتنازلة عن مطالبها وعائدة إلى قواعدها. «نعم» للاستقرار هي العبارة الأكثر سواداً هذه الآونة! وتكمن سخرية القدر في أن الاستقرار بات يعني العودة إلى ما كان قبل ثورة يناير من أمن وأمان وضبط وربط ودولة وكيان بغض النظر عن مستوى الأداء. كثيرون ممن آمنوا بالتحرير وانتهجوا نهج الثوريين سيقولون «نعم» لأن «الدولة العميقة» أهون من «الدولة السقيمة». وكثيرون ممن رأوا في التحرير منذ بدايته «جنيناً» غير شرعي مصحوباً بأجندات وعمالات وخيانات سيقولون «نعم» عقاباً للسذج الذين روجوا لمفهوم الثورة. وكثيرون ممن سمحوا لأحلامهم بالتحليق في سماء التغيير وآفاق الديموقراطية باتوا يحنون للديكتاتورية ويتمنون القبضة الحديد ويهفون إلى السلبية حيث الكنبة الوثيرة والاستفتاءات المحسومة سلفاً والانتخابات المضمونة مقدماً والدولة العميقة وإن كان لفظاً تركياً والمجتمع العميق وإن كان اختراعاً مصرياً صميماً.