المشاهد السوريالية التي خرجت من ليبيا يوم الخميس والتي استفاقت على اخبار خطف رئيس وزرائها ثم اطلاق سراحه تشبه مسرحا هزليا لا يملك المشاهد له الا التعبير عن الدهشة، ولكنه في المحصلة يعبر عن غياب السلطة التي تحسم الامر في البلاد وارتفاع صوت البندقية فوق اي صوت. وسيظل يوم الخميس 10 تشرين الاول (اكتوبر) يوما سيئا في تاريخ ليبيا الجديدة. فمما لا شك فيه ان اختطاف علي زيدان لساعات ثم ‘تحريره' او ‘اطلاق' سراحه مرتبط بعملية خطف كوماندوز امريكي لنزيه الرقيعي، ابو انس الليبي يوم السبت الماضي. وقد انكرت حكومة زيدان اي معرفة مسبقة بالعملية وطالبت الولاياتالمتحدة بتوضيحات، فيما سارعت صحيفة ‘نيويورك تايمز′ للتأكيد نقلا عن مسؤول امريكي ان الحكومة في طرابلس كانت على علم بالعملية ووافقت ‘ضمنيا' عليها. وقد نجحت الولاياتالمتحدة في خطف الناشط الليبي ولكنها خلفت وراءها وضعيا امنيا اشكاليا، فهي على حد تعبير صحيفة ‘نيويورك تايمز′ في افتتاحيتها لم تؤد الى بروز استراتيجية دائمة لاضعاف التطرف في ليبيا، وهو ما بدا واضحا في عملية اختطاف زيدان التي تقول انها جاءت ردا انتقاما على عملية طرابلس الاخيرة. وتقول الصحيفة ان امن واستقرار ليبيا يعتمد في المدى البعيد على تطوير البلد قواته الامنية وتقوية حكومته الانتقالية الضعيفة. وليبيا في الوضع الحالي ليست قادرة على القيام بالمهمة وحدها فهي تحتاج لمساعدة من الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي. وترى الصحيفة ان الولاياتالمتحدة لم يكن لديها الهدف الواضح كي تنسق وبشكل كافل دعم الامن واستقرار الحكومة. وتضيف الصحيفة انه في وضع امني كهذا لم يكن بامكان الحكومة الليبية اعتقال ابو انس الليبي الذي عاد لليبيا بعد الثورة والذي تتهمه واشنطن بالمشاركة في تفجير سفارتي بلادها في نيروبي ودار السلام عام 1998. وكذا التآمر مع اسامة بن لادن زعيم القاعدة لضرب اهداف امريكية في الصومال واليمن والسعودية. فمنذ سقوط نظام القذافي لم تظهر في ليييا حكومة فاعلة بالقدر المطلوب، وظلت قوات الامن في حالة من التهلهل والتمزق فيما زاد الوضع الامني سوءا. فالبلد يعيش في حالة من الفوضى وينتشر فيه السلاح مما فتح الباب امام بعض الجماعات المرتبطة بالقاعدة للدخول وبناء خلايا لها لتهريب السلاح لخارج حدود البلاد بما في ذلك مالي التي شهدت بداية العام الحالي تدخلا عسكريا فرنسيا ضد الجماعات الاسلامية فيه. السيطرة على الميليشيات وترى الصحيفة ان التحدي الاكبر امام الحكومة كان السيطرة على الميليشيات المسلحة والتي شاركت في الثورة على القذافي ولكن عددها وعتادها تفوق على عدد قوات الامن والجيش. وحتى الان فقد فشلت الحكومة في كل مبادراتها التي شملت على حوافز لدفع الجماعات المسلحة كي تندمج في داخل الجيش. وتركت حالة الفوضى وعدم الاستقرار اثرها على صناعة النفط التي شلت في بداية العام الحالي قبل ان تتمكن الحكومة من اعادة جزء من خطوط الانتاج للعمل. وتشير الصحيفة الى بعض الجهود التي تقوم بها امريكا وايطاليا للمساعدة في تدريب 12 الف جندي في قاعة عسكرية في اوروبا بناء على طلب من الحكومة الليبية التي قالت انها ستتكفل بدفع النفقات، اضافة الى جهود اخرى على قاعدة اصغر لتدريب قوات حرس حدود وتحت اشراف امريكي ومن المتوقع ان يبدأ تنفيذ البرنامجين قريبا. واعلنت بريطانيا عن خطط لتدريب الفي جندي ليبي. وقالت صحيفة ‘التايمز′ ان وفدا من رجال الاعمال البريطانيين قاده السفير السابق سير دومنيك اسكويث الشهر الماضي لتعزيز موقع بريطانيا الاقتصادي، اضافة لارسالها 20 مستشارا عسكريا وعرضت تدريبا لالفي مقاتل ليبي في معسكر باسينغبورن في كامبريدج شاير. كل هذه الجهود لن تغير من الواقع شيئا ولن تحدث اي اثر مباشر على الوضع الامني. فما تحتاجه ليبيا هو اصلاح وتأهيل شامل للجيش يتم من خلاله وتشكيل قيادة متماسكة له. والاهم من كل هذا هو استبدال الحكومة الحالية المؤقتة بحكومة دائمة وانشاء بنى ديمقراطية قادرة على توحيد الجماعات القبلية، الجهوية والسياسية في عموم البلاد، حتى تكون في وضع يمكنها من تقديم الخدمات للمواطنين الليبيين. وحتى يحدث هذا فلا بد من جهود كبيرة تقوم بها الولاياتالمتحدة واوروبا وتتضمن تعاملا دبلوماسيا ونصيحة حول كيفية فرض النظام والقانون وكتابة الدستور. رئيس وزراء محاصر ومن اهم المشاكل التي تعوق عمل الحكومة في ليبيا هو اعتمادها وتداخل عملها مع الميليشيات. وتمتلك بعض الجماعات المسلحة سلطة داخل مؤسسات الدولة فيما بعد الثورة، وهو ما يفسر صورة زيدان المحاصر، فهو كما يقول شانشك جوشي في صحيفة ‘ديلي تلغراف' ليس اول شخص يتم اختطافه هذا الاسبوع، مشيرا الى اختطاف الكوماندو الامريكي لابو انس الليبي. وقال جوشي ان الامريكيين لم يكتفوا بخطف الليبي بل صبوا زيتا على النار عندما قالوا ان الحكومة الليبية كانت على علم بالعملية وكانت النتيجة مشاعر غضب شعبية. ويرى جوشي ان تدخل القوات الامريكية الخاصة لاعتقال ابو انس الليبي ليس مفاجئا لان القوات الليبية لم تكن قادرة لا على منع الهجوم على قنصلية الولاياتالمتحدة في بنغازي والتي قتل فيها السفير كريس ستفينز، ولم تعتقل احدا له علاقة بالعملية. وحتى لو طالبت الولاياتالمتحدة بترحيل الليبي كي يواجه محاكمة في امريكا فان فرص حدوث هذا قليلة جدا. ويعتقد الكاتب ان العملية الامريكية واختطاف رئيس الوزراء هما عرض لشيء واضح منذ اكثر من عام وهو ان ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي تفتقد قوة السلاح كي تفرض سلطتها على بلد لا سلطة للقانون فيه. فلم تتوقف حوادث الهجوم على البعثات الاجنبية منذ بداية العام الحالي، ففي كانون الثاني (يناير) تعرضت القنصلية الليبية في بنغازي لهجوم، وبعدها هوجمت السفارة الفرنسية في نيسان (ابريل)، وتعرض موكب لسفير الاتحاد الاوروبي لهجوم في آب (اغسطس) واخيرا تم الهجوم على قنصلية روسيا الاسبوع الماضي. ولا يمكن التعامل مع هذه الهجمات على انها صورة عن عنف ارهابي فقط، بل تعبيرا عن وضع ليبيا الذي تم فيها اعادة تفعيل او استهلاك الدولة التي انتزعت من القذافي من قبل جماعات المقاتلين الذين اطاحوا به. ففي ليبيا الجديدة يحتاج تنفيذ ابسط قرار اداري، مثل القاء القبض على شخص او مراقبة الحدود لعملية تفاوض معقدة بين الحكومة وبين الفصيل المسلح الاقوى في المنطقة التي يجب تنفيذ الامر الاداري فيه. ولا يتعلق الامر بعدم قيام قوات الامن والجيش العاجزة تنفيذ هذه القرارات بل لان الحكومة قررت تحويل هذه الوظائف للجماعات التي تسبب لها المشاكل. فالهجمات في بنغازي واختطاف علي زيدان نفذتها جماعات عملت مع الحكومة ووزاراتها. لماذا تتحدى؟ وهنا يجب ان نتساءل عن السبب الذي يجعل الجماعات المسلحة تتحدى الحكومة في المقام الاول؟ والاجابة على هذا السؤال صعبة ويتعلق بتعدد الجماعات المسلحة وتنوع اتجاهاتها، فبعضها اسلامي واخر علماني ووطني، وبعضها يعمل في حدود مدينة واخر يسيطر على مناطق. وهناك جماعات شكلت بطريقة مختلطة في عام 2011 وتعتقد ان شرعيتها الثورة هي فوق شرعية الحكومة الفاسدة والعميلة للغرب. ففي شهر اذار (مارس) الماضي حاصر تحالف من الفصائل وزارتي العدل والخارجية مدة اسبوعين من اجل اجبار البرلمان ‘المؤتمر الوطني العام' على تمرير قانون العزل الذي يمنع المسؤولين السابقين في نظام القذافي من العمل في الحكومة. وقد اجبر البرلمان على الموافقة تحت ضغط السلاح، واضطر محمد المقريف رئيس المجلس التأسيسي الى الاستقالة. ويقول جوشي ان الوضع في خارج طرابلس ليس احسن حالا، فقد تراجع انتاج النفط الليبي لخمس ما كانت تصدره البلاد في عهد القذافي بسبب اضراب عمال النفط، وجزء من هذا النزاع مرتبط بمطالب الاقاليم الشرقية في ليبيا التي تطالب بالاستقلال. ويختم بالقول ان الحروب تنسى بعد ان يتم تحقيق الانتصار فيها، هذا ما حدث في افغانستان (2001) والعراق (2003) وليبيا (2011) لكن ما يميز ليبيا ان مشاكلها لا تظل منحصرة في داخل حدودها، فبالاضافة للمشاكل الداخلية اصبحت ليبيا مصدرا لتدفق كم هائل من الاسلحة التي يتم تهريبها عبرحدودها السهلة الاختراق. فقد تم تهريب الاسلحة التي نهبت من مخازن نظام القذافي الى عدد من دول الجوار بل ابعد من هذا، الى مالي وسيناء في مصر وغزة وسورية. وبحسب واحد من التقديرات فهناك 3 الاف صاروخ مضاد للطائرات لا تزال مفقودة. ويتفق جوشي على اهمية تدخل امريكا واوروبا لمساعدة الحكومة الليبية الضعيفة كي تواجه هذه التحديات. والمشكلة ان هذا التدخل سيزيد من تشويه الحكومة في نظر الاسلاميين والوطنيين وعليه لا بد من موازنة حذرة تأخذ بعين الاعتبار المخاطر الامنية والحساسيات الوطنية. وفي ضوء تراجع سلطة الحكومة بشكل مستمر، فالتحدي الاكبر امام زيدان هو اظهار قدرته على حل المشاكل والا فانه سيصبح بلا اهمية. غير ناضجين وفي هذا السياق نقلت صحيفة ‘الغارديان' عن حسن الامين، الذي ترأس لجنة برلمانية لحقوق الانسان في ليبيا قبل ان يفر الى بريطانيا ان من اختطفوا زيدان ‘غير ناضجين' و ‘ليسوا ثوارا بل فراريخ' واتهمهم بخيانة شهداء الثورة. وقال ايان بلاك في تحليل له بنفس الصحيفة ان احداث يوم الخميس تشير الى انزلاق ليبيا للحضيض، مشيرا الى ان قلة من الليبيين ممن يحنون لعودة الديكتاتورية لكن النقص المزمن في الامن وسوء الاوضاع الاقتصادية تلقي بظلال قاتمة على مستقبل البلاد. ويعدد الكاتب اشكال العنف والفوضى والتي زاد منها الهجوم الامريكي الاخير واختطاف ابو انس الليبي، ومع ذلك يرى ان اختطاف زيدان ما هو الا شكل متطرف لما اصبح وللاسف امرا عاديا في الثقافة السياسية في مرحلة ما بعد القذافي، فالسلطة لا تأتي عبر النقاش وانما عبر فوهة البندقية. ويضيف ان العاصمة طرابلس تبدو على السطح مدينة هادئة وعادية اكثر مما كانت عليه قبل عام، حيث فتحت مطاعم ومقاه جديدة ابوابها، بل وحتى فروعا لمحلات اجنبية مثل دبنهام البريطاني، فيما تراجعت مظاهر السلاح في الشوارع ولكن المسلحين وبعضهم عناصر مرتبطة بالحكومة لا يزالون في ثكناتهم، ذلك ان الجهود لدمجهم في الجيش الوطني تتحرك ببطء فيما لا يزال سيف الاسلام القذافي نجل الزعيم السابق، في يد ثوار الزنتان الذين يصرون على محاكمته في مدينتهم ويرفضون نقله لطرابلس. ولم يكن غريبا ان يكون اول تصريح لزيدان بعد اطلاق سراحه هو دعوة الثوار للانضمام للجيش والمؤسسات المدنية. ويختم بالقول ان اختطاف زيدان من فندق كورنيثيا الآمن وهو نفسه الذي ظهر فيه الى جانب نيكولاي ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق، وديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، يعتبر يوما سيئا لليبيا الجديدة. وعلق كيم سينغوبتا في ‘اندبندنت' انه وان اطلق الخاطفون سراح زيدان الا انه لا توجد ضمانات لعدم تكرار مثل هذا الحادث الا في حالة حضور قوة شرطة وجيش نظامي منضبط وحل كل الجماعات المسلحة الخاصة والمرتبطة كل واحدة منها بدائرة او قسم من اقسام الدولة. وعلقت صحيفة ‘واشنطن بوست' على ما حدث بانه اشارة للقوة التي باتت االميليشيات تمارسها على شؤون ليبيا فيما بعد القذافي. وتقول الصحيفة ان زيدان، وهو محام في مجال حقوق الانسان وعاش في المنفى لعقود اثناء حكم القذافي له اعداؤه واصدقاؤه في داخل الحكومة وبين الميليشيات الليبية المتعددة، وزادت حدة الانتقادات له بعد عملية اختطاف ابو انس الليبي التي احرجت الحكومة باعتبارها متواطئة في العملية. ونقلت عن جيف بورتر، المحلل في مؤسسة ‘نورث افريكا ريسك كونسالتينغ' ان اختطاف الليبي كان ‘الشرارة' لكن اختطاف زيدان يتبع اشكالا من التلاعب في السلطة التي تمارسها الجماعات المسلحة والتي ادت الى ضعف القيادة الانتقالية في ليبيا، والتي تأخذ اشكال السيطرة على مؤسسات الدولة او الاختطاف، مضيفا ان الوضع في ليبيا بمثابة مسألة وقت قبل ان يتحرك احد ضد زيدان الذي تعاني حكومته من الضعف والانقسام. وبدا هذا واضحا في الطريقة التي عالجت فيها مؤسسات الدولة قضية الاختطاف واسبابها. نكسة وايا كان الحال فاختطاف رئيس وزراء دولة يعتبر نكسة لبلد في مرحلة تحول، كما لاحظ بورتر. ومن هنا اختارت مجلة ‘تايم' الامريكية عنوانا لافتا ‘الحياة العادية الليبية الجديدة: عندما يتم اختطاف رئيس الوزراء في وضح النهار'. وقالت ان ‘اختطاف رئيس الحكومة في وضح النهار وفي قلب عاصمته يقول الكثير عن وضع ليبيا الحالي، لان السلطة في ليبيا ليست بيد مؤسسات الحكومة وبناياتها الحديثة في طرابلس ولكن بيد مجموعات مسلحة برزت في كل مدينة اثناء الحرب على القذافي. وقد ادى التنافس بينها الى انقسام ليبيا الى مجمو عة من الدول الصغيرة، تقوم فيها الميليشيات بجمع الضرائب وتمارس نظامها القضائي الخاص'. وفي هذا الوضع الذي يتم فيه اختطاف زيدان من اكثر المناطق امنا في العاصمة او هكذا يفترض فان مخاطر ما بعد الثورة تبدو كبيرة. وقد اشار بورتر في دراسة له نشرها ‘معهد واشنطن' لدراسات الشرق الادنى في الشهر الماضي الى المعوقات الامنية والسياسية التي تواجه ليبيا، والى الرسالة التي وقعتها مجموعة من المراقبين الليبيين ممن لهم مصالح سياسية او مهنية في عودة الاستقرار البلاد ووجهوها الى وزير الخارجية الامريكي جون كيري، ودعوا فيها واشنطن لتوسيع انخراطها في ليبيا ودعم التنمية الاقتصادية. وقالوا ان ليبيا مستقرة وديمقراطية ستكون حصنا ضد الفوضى في المنطقة، لكن الكاتب يقول ان الجهود هذه قد تكون متأخرة لان الكثيرين يرون ان ‘المؤتمر الوطني العام' منعدم الاهلية فيما يفقد زيدان شعبيته، وتستمر عوائد النفط بالتراجع. وختم بورتر مقالته بالتصريحات التي اطلقها وزير الخارجية ومدير المخابرات السابق في عهد القذافي موسى كوسا قبل انشقاقه بفترة من مخاطر تحول ليبيا الى صومال جديدة. ومع ان هذه التصريحات نالت رفضا واستبعدت في حينه الا ان الوقائع تثبت صحتها، فقد بدأت ليبيا بالانهيار والتمزق بناء على الخطوط الجهوية والايديولوجية، وبدلا من ان تؤدي ايرادات الثروة الهيدروكربونية ( النفط والغاز) الى توحيد البلاد باتت اداة لتمزيقها.