قلت مرارا وتكرارا إن المشكلة الأكثر صعوبة في مصر هي الثقافة، فلا تقدم ولا تنمية ولا دولة مدنية حديثة دون ثقافة تدعمها وتشجع عليها. ولا أعني بالثقافة مجال عمل وزارة الثقافة أو ما يتصل بها من الفنون وأشكال الإبداع، فهذا الجانب من الثقافة بخير نسبيا، ومهما كانت ملاحظاتنا عليه إيجابا أو سلبا، فهو قائم وفاعل وله دوره الحيوي في تشكيل القوة الناعمة لمصر. وما أعنيه- في هذا المجال- هو الثقافة بمعناها العام الذي يجعلها شاملة لكل أشكال الوعي الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، وما يرتبط بهذا الوعي من أشكال السلوك والعادات والأعراف والتقاليد. وأعتقد أن أولي كوارث مصر تكمن في أن الثقافة الغالبة علي عقول الملايين من أبنائها هي ثقافة تخلف بكل معني الكلمة، يصح ذلك علي الثقافة الدينية من حيث سيطرة معتقدات فاسدة، وتأويلات متعسفة لا تعرف معني للتسامح أو الاجتهاد أو حرية الاختلاف في فهم النصوص الدينية، ناهيك عن إلغاء العقل وفرض التقاليد الجامدة علي البسطاء من المواطنين. وقد اقترن ذلك بجمود الخطاب الديني السائد وبعده عن التسامح والعقلانية والاجتهاد، فشاع خطاب التقليد، مقابل تضييق باب الاجتهاد، وانتشر التعصب المقترن بالعنف المعنوي والمادي، وشاع وهم احتكار المعرفة الدينية بين الفرق المتصارعة، وتصاعد خطاب التكفير وأحكامه التي لا أكاد أستثني منها تيارا من تيارات الإسلام السياسي، وينطبق الأمر علي الثقافة السياسية، حيث تشيع سيطرة خطاب الاستبداد الذي لا يزال باقيا رغم سقوط دولة الإخوان الاستبدادية. ولذلك لا نزال بعيدين عن ثقافة الدولة المدنية التي تعتمد علي الحوار الديموقراطي وتقبل الاختلاف والتعدد والتنوع بوصفه حقا من حقوق الحياة والأحياء. ولذلك لا تزال طبائع الاستبداد باقية في النفوس، ملحوظة في الممارسات السياسية أو حتي الحوارات الخلافية للإخوة الأعداء. ومن اللافت للانتباه، حقا، أننا نتحدث عن الديمقراطية وحق الاختلاف، ولكن إذا اختلف واحد من مثقفينا مع غيره; فالاتهامات جاهزة، والعنف محتمل لغويا علي الأقل، وإذا نزلنا إلي عامة الشعب، وجدنا طبائع الاستبداد متغلغلة في اللاشعور الجمعي، وعلي نحو يحاكي فيه المقموع صفات القامع. والنتيجة غياب ثقافة المواطنة التي تعني تسليمك لغيرك بكل ما لك من حقوق وما عليك من واجبات. ويصح ذلك علي الوعي الاجتماعي الذي تقادمت عليه أمراض التمييز الاجتماعي التي تضع الناس في طبقات بحكم الثروة والنوع والدين، فإلي اليوم، لانزال نتصور الكبير أحكم وأعقل من الصغير علي الإطلاق، والرجل أفضل من المرأة المهدرة الحقوق، أما الأطفال فهوانهم يتزايد بهوان منزلتهم الاجتماعية، فتغدو النظرة الاجتماعية إليهم قرينة الاحتقار والازدراء، وطبيعي- والأمر كذلك- أن يسود العنف في العلاقة بين الطبقات، والعنف في العلاقة بكل ما يرتبط بالدولة. وتغيير ثقافة المجتمع هو المدخل إلي ما نرجوه من مستقبل، فيقيني الذي لا أزال عليه هو أنه لا مستقبل للدولة المدنية في مصر، بل لا مستقبل لمصر كلها، وثقافة الناس علي ما هي عليه من تخلف. إن مصر يصل تعداد سكانها إلي ما يقارب تسعين مليون مواطن ومواطنة، نسبة الأمية فيهم تصل إلي40% أو تزيد، والحياة تحت خط الفقر تصل إلي هذه النسبة أو تزيد. والتسرب من التعليم الأولي يتزايد ولا يتناقص، أي إن معدلات الأمية المقرونة بالفقر تتزايد، وذلك بالقدر الذي تتزايد به العشوائيات التي تفرخ الفقر والجريمة. ويعني ذلك أننا نتحدث عن ما يزيد علي خمسة وثلاثين مليون مواطن مصري يعانون من الأمية( الجهل) ووحشية الفقر. وبقدر ما يتحول الجهل إلي عامل فعال يعين مشايخ التطرف والإرهاب علي حشو أذهان الجهلاء بالخزعبلات وأفكار التعصب الديني والتشدد الذي لا محل له في دين سمح، فإن الفقر يورث أصحابه أخلاق العنف ونزعات الحقد علي الأغنياء والأثرياء وأصحاب الملايين. ويعني ذلك أنه لا ضمان حقيقيا لأي كلام عن الديموقراطية أو حتي عن الدستور. ودع عنك الدولة المدنية الحديثة، وسط أناس لا يجدون قوت يومهم إلا بشق الأنفس إن وجدوا، وليس لديهم من يتمكن من النفاذ إلي عقولهم سوي أجهل الجهلاء في أمور الدين، أو من يعمل لنشر أفكار التطرف الديني المقترنة بالعنف الذي تقوي دوافع وحشيته السلوكية بقوة حدة الفقر. كان عبد الناصر يقول إن رغيف الخبز هو الضمان الحقيقي للديمقراطية، وإنه لا حرية حقيقية لمن لا يملك قوت يومه. ويمكن أن نضيف إلي ذلك- وبالقياس نفسه- أنه لا حرية حقيقية لمن لا يعرف معناها ولا يعي أهميتها في حياته أو حياة من حوله. وكيف يمكن لعاقل حقا أن يتخيل أن هؤلاء المواطنين المعذبين في الأرض يمكن أن يعيشوا في خنوع واستكانة وسلام، وأن يسارعوا إلي صناديق الانتخابات، ولا يقدمون أصواتهم إلا لمن يملك دفع الثمن، أيا كان هذا الثمن. وكيف يمكن أن نمنع استغلال رأس المال لإرادة الناخبين المعذبين في الأرض؟ هل الحل هو التعليم والقضاء علي الأمية؟ ممكن. لكن كيف يتحقق هذا ونحن لا نملك مشروعا قوميا فاعلا للقضاء علي الأمية بين الكبار، ولا تعليما متاحا للصغار، أعرف طلابا في قري يسيرون أميالا إلي أن يصلوا إلي مدارسهم; فعدد المدارس لا يتناسب تناسبا عادلا مع تزايد عدد السكان، وأسمع عن مدارس يجلس في كل فصل منها ما يزيد علي مائة تلميذ. وحتي عندما يصل الطلاب الصغار إلي المدرسة، فكم نسبة الذين يواصلون التعليم منهم حتي مراحله الأخيرة؟! ولذلك تظل الأمية باقية كالجهل الذي يستأصل السماحة والرضا، ويحيل الحياة إلي عنف وقتال ووحشية، فتتحول مصر التي كانت واحة للأمان إلي مرتع للجريمة والبلطجة. هكذا أخذنا نسمع عن قري تبيع أسرها بناتها الصغيرات لأثرياء العرب مقابل آلاف معدودة من الجنيهات، تحت غطاء الزواج علي سنة الله ورسوله. والله ورسوله بريئان من هذه الجرائم، ونسمع- أيضا- عن زواج القاصرات بتبريرات من ذوي لحي كثيفة طويلة، يقولون إن الإسلام أباح زواج الفتاة إذا بلغت العاشرة. وليذهب الطب الحديث إلي الجحيم فهو من صنع الكفار، ولا رحمة للطفلة التي قد يؤدي الدخول بها إلي نزيف يفضي إلي موتها، وقد حدث ذلك مرارا وتكرارا. وقس علي هذين المثالين عشرات وعشرات غيرهما، نسمع عنها كل يوم، ونري فيها شاهدا علي تخلفنا وتأخرنا حتي عن غيرنا من الدول العربية التي سمح نظامها القضائي، بوجود امرأة قاضية، بينما قضينا نحن سنوات طويلة في جدل عقيم إلي أن اقتنعت الجهات المسئولة، فأصبح لدينا قاضية، ولكنها سوف تظل في الدرجة الأدني بالقياس إلي القاضي الرجل. وهذا كله نتاج ثقافة كارثية لا نزال نعيشها، ولا نفكر في إيجاد حلول جذرية لها. "الأهرام"