تبذل لجنة الخمسين جهودها الحثيثة وتعمق محاولاتها العتيدة لإعادة اختراع العجلة، فيختلف بعضهم في شأن اتجاه دورانها، وهل هو مع عقارب الساعة أم يمكن أن يكون عكسها، وينخرط الخبراء في مشادات حامية حول تروسها وهل ينبغي أن تكون تروساً مدنية أم دينية أم يمكن مزجهما ليكون الترس أشبه بكوكتيل «الفخفخينا»، ويغوص الأعضاء في مناقشة نوعية الإطارات، وهل يفضل أن تكون رئاسية أم برلمانية أم خليطاً من كليهما، وينغمس الجميع في تحديد أطر العلاقة بين المقود الذي يقوم بدور القائد والرئيس والدواسة التي هي قوة الشعب الضاربة، فهل قدرة الدواسة على تحريك العجلة ودفعها تجعلها صاحبة اليد العليا أم إن المقود على رغم بساطته يظل صاحب القدرة على التوجيه والتحديد، ويدور الجميع في دوائر مغلقة حول حجم الشكل الاستثنائي لممتص الصدمات حامي حمى العجلة والمدافع الأول عنها ضد صدمات الداخل وصدامات الخارج والذي لا يظهر دوره إلا في الشدائد لكنه يكون ظهوراً محورياً يكتب للعجل النجاة أو الهلاك. وبينما الأعضاء الخمسون من النخبة السياسية والثقافية مشغولون منغمسون غارقون مهمومون مهتمون بإعادة اختراع العجلة، على رغم أن الأقدمين ممن سبقوهم اخترعوا العجلة نفسها غير مرة، في مصر وخارجها، وأن الشعب حسم أمره، واعتبر مسألة العجلة بأجزائها الكلاسيكية المراد تعديلها وتحويرها ومحاولة عرض عجلة مربعة مرة، وأخرى مستطيلة مرة على سبيل صرعات الابتكار، أمراً لا يعنيه. «يعني لا جلسات اللجنة ولا معاركها ولا ما يكتبونه ستحل لي مشكلة ابني العاطل من العمل منذ خمس سنوات، ولا ابنتي المخطوبة التي تنتظر مصاريف الزواج ، ولا زوجتي التي تحتاج علاجاً شهرياً، ولا وظيفتي التي لا يسمن راتبها ولا يغني عن جوع. زهقنا دساتير»، يقول سائق الباص العام الذي كان صوت ب «لا» على مشروع الدستور «الإخواني» في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، لإيمانه بأنه دستور مفصل على مقاس بدلة الجماعة. وعلى رغم اختلاف زميله السائق الأيديولوجي الذي صوت ب «نعم» بحكم أن الدستور وضعه «الناس بتاعة ربنا» وسيحقق الاستقرار، إلا أنه لم يعد يهتم لا بدستور «الناس بتاعة ربنا» ولا «الناس بتاعة الخمسين». يقول وقد نفرت عروق وجهه ورقبته غيظاً وغضباً وحنقاً: «خلاص تعبنا! لا يهمني دستور ولا لجنة ولا «إخوان» ولا غيره! حتى كلمة استقرار كرهتها! وهل هناك أكثر من أنني أمنع مشاهدة برامج التوك شو في البيت لو تطرقت إلى الدستور ولجنته وخناقاته؟ كفى». مقارنة ذهنية سريعة تكشف أن أحاديث المصريين في الشارع إبان الدستور «المسلوق»، وفي أقوال «إخوانية»، «أفضل دستور في التاريخ»، قبل حوالى عام لم تكن تدور إلا في إطار الدستور ومواده ونصوصه ولجنته وصياغته وخناقاته وتوافقاته. أما اليوم وفي ظل كتابة دستور للمرة الثانية في أقل من عام، لا يذكر المصريون المشروع الجديد بخير أو شر. فقط يتمنون لو توقفت النخب عن محاولات إعادة ابتكار عجلة الدستور، أو على الأقل المضي قدماً في محاولاتها من دون أن تصدع رؤوس المواطنين المصدعة أصلاً. والأصل هو أن حوارات النخبة وسجالات الكوكبة في مصر غير مفهومة للغالبية. يخرج أحدهم مؤكداً أن «فلسفة الدستور في ديباجته» فيتساءل المستمعون «يعني إيه ديباجة؟»، وتؤكد أخرى أن «الدستور ظلم المرأة مجدداً»، فتعلق المشاهدات «الوقت ليس مناسباً للنسوية»، ويجادل فريق مختص بأن بنود حريات الفكر والعقيدة يجب أن تكون أكثر وضوحاً، فيرد مواطن «ماكلنا مسلمين وموحدين بالله»، ويعترض حقوقي بأن وضعية الجيش يجب أن تكون أكثر وضوحاً وشفافية، فيعلق كثيرون «الجيش له وضع خاص وماحدش يقرب منه». النخبة المحلقة في واد والشعب القابع في واد آخر يتحدثان عن مواد الدستور نفسها ولكن بلغتين مختلفتين تماماً وإن ظلت الأبجدية واحدة. أبجديات الشعب تتحدث عن شوق لحياة أفضل وأكثر رحمة، وحلم بمقدار أقل من آلام الحياة اليومية ومنغصات كسب لقمة العيش، وملل وكيل فاض يدفعان صاحبهما إلى رفع راية «خلصونا». وأبجديات النخبة تتحدث عن الاشتياق نفسه والأحلام ذاتها، والتي لن تتحقق إلا بالتدقيق من أجل الخروج بدستور يليق بالمصريين المعذبين. وتظل الفجوة قائمة وآخذة في الاتساع تحت وطأة الملل والتعب وتعجل المكتسبات. النخبة ترى أن الجهل المتفشي بين فئات عدة يحملها مسؤولية الإصرار على الخروج ب «دستور نظيف» هذه المرة حتى وإن عارضها الشعب وأظهر ضيقه وغضبه، والشعب يرى أن النخبة تنصب نفسها عالمة ببواطن أمور الشعب وهي منه بعيدة وعن مشاكله نائية. فجوة النخبة والشعب بين إصرار على إعادة اختراع العجلة واقتراح بأن لدينا من العجل ما يكفي أمرها هين إذا ما قورنت بالهوة السحيقة الناجمة عن الاستقطاب المزري الذي جرى على قدم وساق منذ بزغ نجم الإسلام السياسي والذي بلغ ذروته مع انقسام المصريين بين عاشقين ل «رابعة العدوية» وكارهين لها. هذا الاستقطاب لم يستثنِ الدستور ولجنته، فبين «دستور انقلابي» تكتبه «لجنة الانقلابيين الخمسين» في رعاية «النظام الانقلابي» لمصلحة «الشعب الانقلابي» والهادف إلى هدم الإسلام مرة وعلمنة الدولة مرة أخرى وتقنين الشذوذ والترويج للإلحاد والسماح للأخ بالزواج بأخته مرات ومرات، و «دستور نظيف» يليق بمصر البهية صاحبة الحضارة والتاريخ والجغرافيا الضامنة للحقوق والراعية للحريات الحاضنة للجميع، توجد قواعد شعبية أضناها طول الانتظار وأنهكها حديث الخبراء وهدها أسلوب الاستقطاب بين دستور «مسلوق» و «الأفضل في التاريخ» والآن «دستور يعيد اختراع العجلة».